أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ، أَيْ عَجَزَ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ، أَكَانَ يُعْذَرُ؟ وَكَانَ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: إِنْ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ وَهِيَ حَائِضٌ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَنْ تُرَاجِعَهَا، وَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَلَاثًا كَانَ أَوْ وَاحِدَةً، وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْبِ كَالصَّلَاةِ فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى سَبَبِهَا وَإِنَّمَا هُوَ زَوَالُ عِصْمَةٍ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى غَيْرِ سَبَبِهِ أَثِمَ وَلَزِمَهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَلْزَمَ الْمُطِيعَ الْمُتَّبِعَ لِلسُّنَّةِ طَلَاقُهُ وَلَا يَلْزَمَ الْعَاصِيَ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُطِيعِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: ١] (سُورَةُ الطَّلَاقِ: الْآيَةُ ١) أَيْ عَصَى رَبَّهُ وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ الْحَائِلِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا أَثِمَ وَوَقَعَ، وَشَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَأَشْبَهَ طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً ; لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمُرَاجَعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَمْ تَكُنْ رَجْعَةٌ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ الرَّجْعَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الرَّدُّ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ، غَلَطٌ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ حَسَبَهَا عَلَيْهِ طَلْقَةً. اهـ.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ: فَقَالَ عُمَرُ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَيُحْتَسَبُ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» ". فَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ يُمْسِكْ» ". وَزَادَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ فِيهِ: وَلَمْ يَرَهَا، أَعَلَّهُ أَبُو دَاوُدَ فَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ جَمَاعَةٌ، وَأَحَادِيثُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْهَا غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ؟ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: نَافِعٌ أَثْبَتُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَالْأَثْبَتُ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ إِذَا تَخَالَفَا، وَقَدْ وَافَقَ نَافِعًا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّثَبُّتِ، وَحُمِلَ قَوْلُهُ: لَمْ يَرَهَا شَيْئًا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعِدَّهَا شَيْئًا صَوَابًا، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ أَوْ فِي جَوَابِهِ: لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، أَيْ شَيْئًا صَوَابًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرَهَا شَيْئًا تَحْرُمُ مَعَهُ الْمُرَاجَعَةُ، وَقَدْ تَابَعَ أَبَا الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» ". رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ بَعْضِ الثِّقَاتِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ: " «مُرْهُ، فَأَمَرَهُ بِأَمْرِهِ» ". وَأَطَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا تَوَجَّهَ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَأْمُرَ مُكَلَّفًا آخَرَ بِفِعْلِ شَيْءٍ، فَالْمُكَلَّفُ الْأَوَّلُ مُبَلِّغٌ مَحْضٌ وَالثَّانِي مَأْمُورٌ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَمَا هُنَا، وَإِنْ تَوَجَّهَ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَحَدِيثِ: " «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» ". لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِالشَّيْءِ ; لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute