فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَشْهَبُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لِلْغَالِبِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ هِيَ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِالْخِطَابِ وَتَنْقَادُ، فَهَذَا الْوَصْفُ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظِهِ، وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ قَاعِدَتَهُ فِي إِنْكَارِهِ الْمَفَاهِيمَ ( «أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ» ) فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، كَمَا زَادَهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْحَدِيثُ يَعُمُّ كُلَّ زَوْجَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا إِحْدَادَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَا أَمَةٍ زَوْجَةٍ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَبِالْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ، وَلِهَذَا الْوَجْهِ اعْتَدَّتْ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي الْوَفَاةِ اسْتِظْهَارًا لِحُجَّةِ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَبُيِّنَ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، كَمَا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ حَتَّى تَسْتَظْهِرَ لَهُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ، قَالُوا: وَهِيَ الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَزْيَدَ مِنْ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ الزَّوْجُ اسْتُظْهِرَ لَهُ بِأَتَمِّ وُجُوهِ الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْحَمْلُ فَبَعْدَ الرَّابِعِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَزِيدَتِ الْعَشْرُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ حَرَكَتُهُ، وَلِذَا جُعِلَتْ عِدَّتُهَا بِالزَّمَانِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْجَمِيعُ، وَلَمْ تُوكَّلْ إِلَى أَمَانَةِ النِّسَاءِ فَتُجْعَلُ بِالْإِقْرَاءِ كَالْمُطَلَّقَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ حَوْطَةٌ لِلْمَيِّتِ لِعَدَمِ الْمُحَامِي عَنْهُ، وَلَزِمَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الزَّوْجَةِ صَغِيرَةً نَادِرٌ، فَشَمَلَهُنَّ الْحُكْمُ وَعَمَّتْهُنَّ الْحَوْطَةُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، إِيجَابٌ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيَقْتَضِي حَصْرَ الْإِحْدَادِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَلَا إِحْدَادَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنَةً أَوْ مُثَلَّثَةً، وَاسْتَحَبَّهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ لِلرَّجْعِيَّةِ، وَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى الْمُثَلَّثَةِ، وَشَذَّ الْحَسَنُ وَحْدَهُ، فَقَالَ: لَا إِحْدَادَ عَلَى مُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا عَلَى مُطَلَّقَةٍ، وَلَوْلَا الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ لَكَانَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِبَاحَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْمَنْعِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ حَدِيثَ الَّتِي شَكَتْ عَيْنَهَا الْمُتَقَدِّمَ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعُ التَّدَاوِي الْمُبَاحُ، وَبِأَنَّ السِّيَاقَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَمْنُوعٍ مِنْهُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةُ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ ; إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مَعْنَى الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ لَا تُحِدُّ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: ٢٢٨] (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: الْآيَةُ ٢٢٨) وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ اتِّفَاقًا. وَفِي الْمُفْهِمِ: الْقَائِلُ بِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِنْ قَاسَهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَلَا يَصِحُّ لِلْحَصْرِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ، وَأَيْضًا فَعَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَعَبُّدِيَّةٌ يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ، وَكَذَا عَلَى أَنَّهَا مَعْقُولَةٌ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْإِحْدَادَ إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّحَرُّزِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ النِّكَاحِ بِتَعَاطِي أَسْبَابِهِ لِعَدَمِ الزَّوْجِ، وَفِي الطَّلَاقِ الزَّوْجُ حَيٌّ فَهُوَ يَبْحَثُ وَيَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute