الرَّبْطُ وَالنَّهْيُ لِحَقِّ الْغَيْرِ.
(فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ وَهُوَ التَّصْرِيَةُ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذَا النَّهْيِ (فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) أَفْضَلِ الرَّأْيَيْنِ (بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا) بِضَمِّ اللَّامِ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْتَلِبَهَا، بِفَوْقِيَّةٍ قَبْلَ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (إِنْ رَضِيَهَا) أَيِ الْمُصَرَّاةَ (أَمْسَكَهَا) وَلَا شَيْءَ لَهُ (وَإِنْ سَخِطَهَا) كَرِهَهَا (رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ) نُصِبَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ، أَوْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا مَفْعُولًا مَعَهُ ; لِأَنَّ جُمْهُورَ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا نَحْوَ جِئْتُ أَنَا وَزَيْدًا، وَالْجُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ عُطِفَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى فَلَا مَحَلَّ لَهُمَا مِنَ الْإِعْرَابِ، إِذْ هُمَا تَفْسِيرِيَّتَانِ أُتِيَ بِهِمَا لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالنَّظَرَيْنِ مَا هُوَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، إِنَّمَا خَصَّ التَّمْرَ لِأَنَّهُ غَالِبُ عَيْشِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِنَّمَا يُقْضَى بِالصَّاعِ مِنْ غَالِبِ عَيْشِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَمُسْلِمٍ: " «وَصَاعًا مِنْ طَعَامٍ» " زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى ثَلَاثِ حَلْبَاتٍ؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ الدُّلْسَةُ، وَبِالثَّانِيَةِ ظَهَرَتْ، وَبِالثَّالِثَةِ تَحَقَّقَتْ ; لِأَنَّ الثَّانِيَةَ يُظَنُّ أَنَّهَا لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى وَالْمَرَاحِ، أَوْ لِاخْتِلَالٍ فِي الضَّرْعِ بِإِمْسَاكِهَا مُدَّةَ التَّسَوُّقِ بِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّجْشِ وَالدُّلْسَةِ بِالْعَيْبِ، وَأَصْلٌ فِي الرَّدِّ بِهِ، وَأَنَّ بَيْعَ الْمَعِيبَ صَحِيحٌ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَمِمَّنْ قَالَ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ تَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَتَأْخُذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوْ لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَأْيٌ؟ وَقَوْلُهُ فِي الْعُتَبِيَّةِ عَنْهُ لَيْسَ بِالثَّابِتِ وَلَا الْمُوَطَّأُ عَلَيْهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ عَنْ مَالِكٍ.
وَرَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ الْحَدِيثَ وَأَتَوْا بِأَشْيَاءَ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى فَقَالُوا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَالْغَلَّةِ بِالضَّمَانِ، قَالُوا: وَالْمُسْتَهْلَكَاتُ بِالْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهَذَا يُبَيِّنُ نَسْخَهُ.
وَقَوْلُهُ وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي حَدِيثِ: " «التَّمْرُ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» " قَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ صَحِيحٌ فِي أُصُولِ السُّنَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ التَّصْرِيَةِ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الطَّارِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ تَقْوِيمُ مَا لِلْبَائِعِ مِنْهُ، لِأَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَحَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ كَحُكْمِهِ فِي الْجَنِينِ بِغِرَّةٍ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا حِينَ ضُرِبَ بَطْنُ أُمِّهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، أَوْ مَيِّتًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، فَقَطَعَ النِّزَاعَ بِالْغُرَّةِ، وَكَحُكْمِهِ فِي الْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ بِأَنَّ الصَّغِيرَ فِيهَا كَالْكَبِيرِ؛ إِذْ لَا تُوقَفُ لِصِحَّةِ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا الْمُوضِحَةُ حَكَمَ فِي صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ اهـ.
وَفِي الْمُعَلِّمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ لِحَدِيثِ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَبِالْأُصُولِ الَّتِي خَالَفَتْهُ، وَهِيَ أَنَّ اللَّبَنَ مِثْلِيٌّ فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَقِيمَتُهُ، وَالْمِثْلُ هُنَا تَعَذَّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute