فِيمَا بَيْنَكُمْ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا هُوَ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: ٦٥] (سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ ٦٥) الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] (سورة الْمَائِدَةِ: الْآيَةُ ٤٩) الْآيَةَ. وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: ١٠٥] (سورة النِّسَاءِ: الْآيَةُ ١٠٥) الْآيَةَ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ. ثُمَّ تَرُدُّونَهُ إِلَيَّ، وَلَا أَعْلَمُ بَاطِنَ الْأَمْرِ (فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَعْلَمَ (بِحُجَّتِهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " أَبْلَغَ " وَهُوَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّحَنِ، بِفَتْحِ الْحَاءِ، الْفِطْنَةِ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَفْصَحَ، وَأَعْلَمَ بِتَقْرِيرِ مَقْصُودِهِ، وَأَعْلَمَ بِبَيَانِ دَلِيلِهِ، وَأَقْدَرَ عَلَى الْبَرْهَنَةِ عَلَى دَفْعِ دَعْوَى خَصْمِهِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ. هَذَا مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّحْنِ، بِسُكُونِ الْحَاءِ، وَهُوَ الصَّرْفُ عَنِ الصَّوَابِ، أَيْ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنِ الْإِعْرَابِ بِالْحُجَّةِ، وَضَعْفُهُ لَا يَخْفَى، وَجُمْلَةُ " أَنْ يَكُونَ " خَبَرُ " لَعَلَّ " مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ، أَيْ كَائِنٍ، أَوْ " أَنْ " زَائِدَةٌ، أَوِ الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَلَّ وَصْفَ بَعْضِكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ (مِنْ بَعْضٍ) فَيَغْلِبُ خَصْمَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَدَقَ (فَأَقْضِيَ) فَأَحْكُمُ (لَهُ) أَيْ لِلَّذِي غَلَبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ فِي الِاسْتِذْكَارِ " فَأَقْضِيَ لَهُ "، أَيْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ الْحَقَّ لِخَصْمِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْطِنْ لِحُجَّتِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ.
(وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ) لِبِنَاءِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى نَحْوٍ، بِالتَّنْوِينِ، مِمَّا أَسْمَعُ (مِنْهُ) وَمِنْ فِي (مِمَّا) بِمَعْنَى لِأَجْلِ أَوْ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ أَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِهِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ لِإِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا سَمِعَ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى نَحْوِ مَا عَلِمْتُ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) إِنَّهُ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْإِقْرَارُ، وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ التُّهْمَةُ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ شِجَاجٌ، فَأَتَوْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَأَعْطَاهُمُ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ رَضِيتُمْ، أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا، فَهَمَّ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ، فَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ صَعَدَ فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ» ". فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا عَلِمَ مِنْ رِضَاهُمُ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَاطِعٌ بِصِحَّةِ مَا يَقْضِي بِهِ إِذَا حَقَّقَ عِلْمَهُ، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ ; إِذْ لَعَلَّهَا كَاذِبَةٌ أَوْ وَاهِمَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي الْمَالِ فَقَطْ دُونَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute