أَمَرَ اللَّهُ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْكَامِهِ أَجْرَى لَهُ حُكْمَهُمْ فِي عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُ، فَأَجْرَى اللَّهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ لِيَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَتَطِيبَ نُفُوسُ الْعِبَادِ لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ فِي الظَّاهِرِ مُخَالِفٌ لِلْبَاطِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي الْأَحْكَامِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَقَاعِدَةِ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى الْحُكْمُ خَطَأً، بَلِ الْحُكْمُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُورٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ الشَّرْعِ. اهـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ عَلَى بَوَاطِنِ كُلِّ مَنْ يَتَخَاصَمُ إِلَيْهِ فَيَحْكُمُ بِخَفِيِّ ذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ طَرِيقًا عَامًّا وَلَا قَاعِدَةً كُلِّيَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ لِاسْتِمْرَارِ الْعَادَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لَهُمْ وَإِنْ وَقَعَ فَنَادِرٌ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: ٦٢] . فَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِنِ أَيْضًا وَأَنْ يَقْتُلَ بِعِلْمِهِ، وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ بِعِلْمِهِ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَقَدْ شَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُخَرِّفِينَ وَسَمِعْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَحْكُمُونَ بِالْخَوَاطِرِ الْقَلْبِيَّةِ وَيَقُولُونَ: الشَّاهِدُ الْمُتَّصِلُ بِي أَعْدَلُ مِنَ الشَّاهِدِ الْمُنْفَصِلِ عَنِّي، وَهَذِهِ مَخْرَقَةٌ أَبْرَزَتْهَا زَنْدَقَةٌ يُقْتَلُ صَاحِبُهَا قَطْعًا، وَهَذَا خَيْرُ الْبَشَرِ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " مُعْتَرِفًا بِالْقُصُورِ عَنْ إِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ وَعَامِلًا بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنِ اعْتِبَارِ الْأَيْمَانِ وَالْبَيِّنَاتِ. اهـ.
وَقَدْ زَادَ فِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهَا: " «فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: حَقِّي لَكَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسَتَهِمَا ثُمَّ تَحَالَلَا وَتَوَخَّيَا» "، أَيِ اقْصِدَا الْحَقَّ فِي الْقِسْمَةِ ثُمَّ اسْتَهِمَا، أَيِ اقْتَرِعَا لِيَظْهَرَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا. وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا سَبَقَ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي الْأَحْكَامِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَوَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَتَابَعَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute