للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ بِقَتْلِ قَوْمٍ ارْتَدُّوا كَابْنِ خَطَلٍ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَةً. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُقَيَّدًا فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَقَالَ مُعَاذٌ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ؛ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَدِ اسْتَتَابَهُ شَهْرَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْفَتْحِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِتَابَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهَا (فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا) مِنَ الْأَيَّامِ، كَذَا قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: يُسْتَتَابُ مَرَّةً، وَقِيلَ شَهْرًا، وَقِيلَ ثَلَاثَةً جَمْعٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّلَاثَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: ٦٥] (سورة هُودٍ: الْآيَةُ ٦٥) وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ جُعِلَتْ أَصْلًا فِي مَعَانٍ كَالْمُصَرَّاةِ وَاسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا) يُرِيدُ أَنْ لَا يُوَسَّعَ عَلَيْهِ تَوْسِعَةَ إِحْسَانٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَلَكِنْ يُطْعَمُ مَا يَقُوتُهُ وَيَكْفِيهِ وَلَا يُجَوَّعُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ. قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: يَعْنِي تُوَسِّعُ وَلَا تَفُكُّهُ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يُقَوَّتُ مِنَ الطَّعَامِ مَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ لَا يُجْعَلَ الرَّغِيفُ حَدًّا، وَإِنَّمَا أَشَارَ عُمَرُ إِلَى قِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَرَزِيَّتِهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ، وَبَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ (وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ) يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ رُجُوعُ أَبِي مُوسَى وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى قَوْلِ عُمَرَ (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ) قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ (وَلَمْ آمُرْ بِهِ وَلَمْ أَرْضَ) بِهِ (إِذْ بَلَغَنِي) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِخَطَأِ فَاعِلِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أُمَّ قِرْفَةَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فَلَمْ تَتُبْ فَقَتَلَهَا، فَلَعَلَّ عُمَرَ عَلِمَ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي مُوسَى تَغْيِيرَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَأَبُو مُوسَى مُجْتَهِدٌ، فَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ لَمْ يَبْلُغْ عُمَرُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدَّ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَبِي مُوسَى ذَلِكَ مَا جَازَ لِعُمْرَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْحُكْمَ حَتَّى يُطَالِعَهُ عَلَى قَضِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ الْأَحْوَالِ وَتَوَقُّفِ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَخْفَى، قَالَهُ الْبَاجِيُّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>