للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مُحَرَّمَانِ فَالْمُؤَدِّي إِلَيْهِمَا حَرَامٌ وَالتَّفْضِيلُ يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّسْوِيَةِ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: الْعَدْلُ أَنْ يُعْطَى الذَّكَرُ حَظَّيْنِ كَالْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ حَظُّ الْأُنْثَى لَوْ أَبْقَاهُ الْوَاهِبُ حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَفَارَقَ الْإِرْثُ بِأَنَّ الْوَارِثَ رَاضٍ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ بِخِلَافِ هَذَا، وَبِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ، أَمَّا بِالرَّحِمِ الْمُحَدَّدَةِ فَهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْهِبَةُ لِلْأَوْلَادِ أَمَرَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّسْوِيَةِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: " «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ» ". أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: التَّسْوِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضًا صَحَّ وَكُرِهَ، وَنُدِبَتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ أَوِ الرُّجُوعُ حَمْلًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَالنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمَوْهُوبَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ جَمِيعَ مَالِ وَالِدِهِ، وَلِذَا مَنَعَهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْعِ التَّفْضِيلِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ صَرِيحٌ بِالْبَعْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ كَانَ غُلَامًا وَأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ لَمَّا سَأَلَتْهُ أُمُّهُ الْهِبَةَ مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْهُ بِالْقَطْعِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالُ غَيْرِهِ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَتَنَجَّزْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَشِيرٌ يَسْتَشِيرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ فَتَرَكَ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَأَكْثَرُ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُنَابِذُهُ. ثَالِثُهَا: أَنَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَقْبِضِ الْمَوْهُوبَ، فَجَازَ لِأَبِيهِ الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا قَوْلَهُ " ارْتَجِعْهُ " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُقُوعِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَكَانَ أَبُوهُ قَابِضًا لَهُ لِصِغَرِهِ، فَأُمِرَ بِرَدِّ الْعَطِيَّةِ بَعْدَمَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ. رَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: " فَارْتَجِعْهُ " دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ; إِذْ لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ مَا صَحَّ الرُّجُوعُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِهِ لَأَنَّ الْوَالِدَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّسْوِيَةِ رَجَحَ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى " ارْتَجِعْهُ "، أَيْ لَا تُمْضِ الْهِبَةَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ صِحَّتِهَا. خَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» " إِذْنٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَشْهَدُ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ الْحُكْمُ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَارْتَضَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الشَّهَادَةُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِهَا وَلَا مِنْ أَدَائِهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحْتَجُّ بِهَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ جَازَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ " أَشْهِدْ " صِيغَةَ إِذْنٍ فَلَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>