شَرْطِ الصَّحِيحِ مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا.
وَمِنْهَا حَدِيثُ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ مَرْفُوعًا: " إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي السَّمْحِ نَحْوَهُ بِلَفْظِ: " يَرُشُّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِي وَجْهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَوْجُهٌ رَكِيكَةٌ وَأَقْوَاهَا مَا قِيلَ إِنَّ النُّفُوسَ أَعْلَقُ بِالذَّكَرِ مِنْهَا بِالْإِنَاثِ يَعْنِي فَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِي الذُّكُورِ لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغَسْلَ مِنْهُمَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالْأَصْلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَقِيَاسُ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيَّةِ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهِمَا بَعْدَ أَكْلٍ غَيْرِ اللَّبَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ بَوْلِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهَا، أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّضْحِ هُنَا الْغَسْلُ وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ: " «إِنِّي لَأَعْرِفُ قَرْيَةً يَنْضَحُ الْبَحْرُ بِنَاحِيَتِهَا» ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَذْيِ: " «فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَالْمُرَادُ الْغَسْلُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ كَالرَّاوِي، وَحَدِيثُ أَسْمَاءٍ فِي غَسْلِ الدَّمِ: " وَانْضَحِيهِ "، وَقَدْ جَاءَ الرَّشُّ وَأُرِيدَ بِهِ الْغَسْلُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا حَكَى الْوُضُوءَ النَّبَوِيَّ قَالَ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ وَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، وَأَرَادَ بِالرَّشِّ هُنَا الصَّبَّ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: " وَلَمْ يَغْسِلْهُ " أَيْ غَسْلًا مُبَالَغًا فِيهِ كَغَيْرِهِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسِ بْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا، فَدَلَّ بِالْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ عَلَى نَفْيِ الْكَثِيرِ الْبَلِيغِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِ الْغَسْلِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى وَلَمْ يَغْسِلْهُ لَمْ يَعْرُكْهُ فَأُرِيدَ كَمَالُ الْعَرْكِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْغَسْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ عَرْكُ الْمَغْسُولِ وَقَدْ يُسَمَّى زَوَالُ الْقَذَرِ غَسْلًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ عَرْكٌ وَذَلِكَ مَجَازٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ الرَّاوِي: وَلَمْ يَغْسِلْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْتَجْ هُنَا إِلَى عَرْكٍ لِأَنَّ الْبَوْلَ إِذَا أُتْبِعَ بِالْمَاءِ بِقُرْبِ مُلَاقَاتِهِ الثَّوْبَ خَرَجَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عَرِكٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ ضَمِيرَ عَلَى ثَوْبِهِ عَائِدٌ عَلَى الصَّغِيرِ كَمَا مَرَّ.
رَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ لَيْسَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفُ حَالٍ وَحِكَايَةُ قَضِيَّةٍ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ رَضِيعٌ وَاللَّبَنُ طَعَامٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَأَيُّ شَيْءِ فَرَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّلْ بِهَذَا وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ فَنَكِلُ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَيْهِ.
خَامِسُهَا: أَنَّ الْأَبْهَرِيَّ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْمُتَوَاطَأِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا أَحَادِيثُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَوْلِ الْأُنْثَى فَيُغْسَلُ وَبَوْلِ الصَّبِيِّ يُنْضَحُ فَلَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا فَالْمُرَادُ بِالنَّضْحِ الْغَسْلُ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ بَوْلَ الذَّكَرِ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِضِيقِ مَخْرَجِهِ، وَبَوْلَ الْجَارِيَةِ يَتَفَرَّقُ لِسِعَةِ مَخْرِجِهِ، فَأَمَرَ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ بِالنَّضْحِ يُرِيدُ صَبَّ الْمَاءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَأَرَادَ بِغَسْلِ الْجَارِيَةِ أَنْ يُتْبَعَ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute