تَعْلِيلُ هَذَا الْمُعْتَرِضِ لَا يُوفِي بِمَقْصُودِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ امْتِنَاعُ تَعَدِّيهِ بِالْبَاءِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ لُغَتَيْنِ زَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَالْوَقَارُ "، قَالَ عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى السَّكِينَةِ وَذُكِرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَأَنَّ السَّكِينَةَ التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَاتِ وَاجْتِنَابُ الْعَبَثِ وَالْوَقَارُ فِي الْهَيْئَةِ كَغَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ، وَقَدْ مَنَعَ الرَّضِيُّ الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا فِي التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ حُكْمَ الْأَفْعَالِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا لَكِنَّ كَثِيرًا مَا تُزَادُ الْبَاءُ فِي مَفْعُولِهَا لِضَعْفِهَا فِي الْعَمَلِ.
(فَمَا أَدْرَكْتُمْ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ فَمَا أَدْرَكْتُمْ (فَصَلُّوا) مَعَ الْإِمَامِ (وَمَا فَاتَكُمْ) مَعَهُ (فَأَتِمُّوا) أَيْ أَكْمِلُوا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَاقْضُوا، وَالْأُولَى أَكْثَرُ رِوَايَةً، وَأَعْمَلَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: يُقْضَى الْقَوْلُ وَيُبْنَى الْفِعْلُ، وَعَنْهُ بَانِيًا فِيهِمَا عَمَلًا بِرِوَايَةِ " فَأَتِمُّوا " وَعَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ حَمْلًا لِرِوَايَةِ فَاقْضُوا عَلَى مَعْنَى الْأَدَاءِ وَالْفَرَاغِ فَلَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ فَأَتِمُّوا لِأَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظَةٍ مِنْهُ وَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى وَهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْفَائِتِ غَالِبًا لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْضًا وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: ١٠] (سُورَةُ الْجُمُعَةِ: الْآيَةُ ١٠) وَعَنْهُ يَكُونُ قَاضِيًا فِيهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ، وَإِنْ فَاتَ مِنَ الصَّلَاةِ مَا فَاتَ وَبَيَّنَ مَا يَفْعَلُ فِيمَا فَاتَ بِقَوْلِهِ فَمَا. . . إِلَخْ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْوَاجِبُ أَيِ الْمَطْلُوبُ إِتْيَانُ الصَّلَاةِ بِالسَّكِينَةِ وَلَوْ خَافَ فَوَاتَهَا لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ وَهُوَ الْحُجَّةُ خِلَافًا لِمَنْ جَوَّزَ السَّعْيَ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ، وَقَدْ أَكَدَّ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ ( «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ» ) مُدَّةَ كَوْنِهِ (يَعْمِدُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ يَقْصِدُ (إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، فَيَنْبَغِي لَهُ اعْتِمَادُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اعْتِمَادُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لَهُ اجْتِنَابُهُ، وَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الصَّلَاةِ شَيْئًا لَكَانَ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ لِكَوْنِهِ فِي صَلَاةٍ، وَعَدَمُ الْإِسْرَاعِ أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْخَطَأِ وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهَ أَنْ يُعْرُوا مَنَازِلَهُمْ فَقَالَ: " يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ؟ " فَأَقَامُوا» .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فَقَالُوا: «مَا يَسُرُّنَا إِذَا كُنَّا تَحَوَّلْنَا» ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى حُصُولِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ بِإِدْرَاكِ أَيِّ جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ: " «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» " وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَقِيلَ إِنَّمَا يُدْرَكُ فَضْلَهَا بِرَكْعَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: " «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» " وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute