الْحُجَّةِ قِيلَ: كَانَ مَالِكٌ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَدًا مَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَقِيلَ بَعْدَهَا.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ) أَتِمَّ وَزِدْ (لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْكَيْلِ أَيْ فِيمَا يُكَالُ فِي مِكْيَالِهِمْ.
(وَبَارِكْ لَهُمْ فِي) مَا يُكَالُ فِي (صَاعِهِمْ وَ) مَا يُكَالُ فِي (مُدِّهِمْ) فَحُذِفَ الْمُقَدَّرُ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِ وَبَلَاغَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْبَرَكَةِ فِي الطَّعَامِ الْمَكِيلِ بِالصَّاعِ وَالْمُدِّ لَا فِي الظُّرُوفِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ أَنْ تَكُونَ فِيهِمَا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْبَرَكَةُ هُنَا بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَاللُّزُومِ، قَالَ: وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَرَكَةُ دِينِيَّةً وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لَهَا بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَثَبَاتِهَا، وَأَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً مِنْ تَكْثِيرِ الْمَالِ وَالْقَدْرِ بِهَا حَتَّى يَكْفِيَ مِنْهَا مَا لَا يَكْفِي مِنْ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ، أَوْ تَرْجِعَ الْبَرَكَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا فِي التِّجَارَةِ وَأَرْبَاحِهَا، أَوْ إِلَى كَثْرَةِ مَا يُكَالُ بِهَا مِنْ غَلَّاتِهَا وَأَثْمَارِهَا، أَوْ لِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ بَعْدَ ضِيقِهِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَسَّعَ مِنْ فَضْلِهِ لَهُمْ بِتَمْلِيكِ بِلَادِ الْخِصْبِ وَالرِّيفِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاتَّسَعَ عَيْشُهُمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْكَيْلِ نَفْسِهِ فَزَادَ مُدُّهُمْ وَصَارَ هِشَامِيًّا مِثْلَ مُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً وَنِصْفًا.
وَفِي هَذَا كُلِّهِ ظُهُورُ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَرَكَةُ فِي نَفْسِ الْكَيْلِ فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرِهَا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ هُوَ قَوْلُ عِيَاضٍ أَوْ لِاتِّسَاعِ عَيْشِ أَهْلِهَا. . . إِلَخْ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ» ، وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ قَوْلُهُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: ٣٧] (سورة إِبْرَاهِيمَ: الْآيَةُ ٣٧) يَعْنِي وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِأَنْ تَجْلِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ فِي وَادٍ لَيْسَ فِيهِ نَجْمٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَجَابَ دَعْوَتَهُ فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنْهُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ دُعَاءَ حَبِيبِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتُجِيبَ لَهَا وَضَاعَفَ خَيْرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، بِأَنْ جَلَبَ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْ كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَاقَانَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ يَأْرِزُ الدِّينُ إِلَيْهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ وَشَاسِعِ الْبِلَادِ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أٌمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، وَمَكَّةُ أَيْضًا مِنْ مَأْكُولِهَا» " انْتَهَى.
(يَعْنِي) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَهْلَ الْمَدِينَةِ) بَيَانٌ مِنَ الرَّاوِي لِلضَّمَائِرِ فِي لَهُمْ وَمَا بَعْدَهُ، وَهَلْ يَخْتَصُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute