بِالْمَدِينَةِ عَلَى يَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقِيلَ مَوْلَى شُقْرَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَمَرَنِي رَبِّي بِالْهِجْرَةِ إِلَى قَرْيَةٍ (تَأْكُلُ الْقُرَى) أَيْ تَغْلِبُهَا وَتَظْهَرُ عَلَيْهَا، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا تَغْلِبُ أَهْلَ سَائِرِ الْبِلَادِ فَتُفْتَحُ مِنْهَا، يُقَالُ أَكَلْنَا بَنِي فُلَانٍ أَيْ غَلَبْنَاهُمْ وَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الشَّيْءِ كَالْمُفْنِي لَهُ إِفْنَاءَ الْآكِلِ إِيَّاهُ، وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا تَأْكُلُ الْقُرَى أَيْ مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: تَفْتَحُ الْقُرَى لِأَنَّ مِنَ الْمَدِينَةِ افْتَتَحَتِ الْقُرَى كُلَّهَا بِالْإِسْلَامِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ اللَّهُ يَا طَابَةُ يَا مِسْكِينَةُ إِنِّي سَأَرْفَعُ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ الْقُرَى، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَأْكُلُ الْقُرَى ; لِأَنَّهَا إِذَا عَلَتْ عَلَيْهَا عُلُوَّ الْغَلَبَةِ أَكَلَتْهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ يَأْكُلُ فَضْلُهَا الْفَضَائِلَ أَيْ يَغْلِبُ فَضْلُهَا الْفَضَائِلَ حَتَّى إِذَا قِيسَتْ بِفَضْلِهَا تَلَاشَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَجَاءَ فِي مَكَّةَ أَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ لِلْمَدِينَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُمُومَةِ إِذْ لَا يُمْحَى بِوُجُودِهَا وُجُودُ مَا هِيَ أُمٌّ لَهُ لَكِنْ يَكُونُ حَقُّ الْأُمُومَةِ أَظْهَرَ، وَمَعْنَى تَأْكُلُ الْقُرَى مِنَ الْفَضَائِلِ تَضْمَحِلُّ فِي جَنْبِ عَظِيمِ فَضْلِهَا حَتَّى يَكُونَ عَدَمًا، وَمَا تَضْمَحِلُّ لَهُ الْفَضَائِلُ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا تَبْقَى مَعَهُ الْفَضَائِلُ اهـ.
وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: لِأَنَّ الْمَدِينَةَ هِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ مَكَّةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى فِي الْإِسْلَامِ فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي صَحَائِفِ أَهْلِهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ فَتَحُوا مَكَّةَ فِيهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَالْفَضْلُ ثَابِتٌ لِلْفَرِيقَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، قُلْنَا: لَا نِزَاعَ فِي ثُبُوتِ الْفَضْلِ لِلْفَرِيقَيْنِ وَلِلْقَرْيَتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مَكَّةَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرَى الَّتِي أَكَلَتْهَا الْمَدِينَةُ فَيَلْزَمُ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهَا.
(وَيَقُولُونَ) أَيْ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ (يَثْرِبُ) بِالرَّفْعِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمِ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ نَزَلَهَا، وَقِيلَ بِاسْمِ يَثْرِبَ بْنِ قَانِيَةٍ مِنْ وَلَدِ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ كَانَ لِمَوْضِعٍ مِنْهَا سُمِّيَتْ بِهِ كُلُّهَا، وَكَرِهَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مِنَ التَّثْرِيبِ الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخُ وَالْمَلَامَةُ أَوْ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الْفَسَادُ وَكِلَاهُمَا قَبِيحٌ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ وَيَكْرَهُ الْقَبِيحَ وَلِذَا قَالَ، يَقُولُونَ يَثْرِبُ (وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيِ الْكَامِلَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَالْبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ فَهُوَ اسْمُهَا الْحَقِيقِيُّ لَهَا لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ: وَهُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدٍ.
أَيْ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِأَنْ تُتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ يَثْرِبَ فَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَفَعَهُ: " «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» " وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُقَالَ لِلْمَدِينَةِ يَثْرِبُ» " قَالَ عِيَاضٌ: فَهِمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute