للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تِيبَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَا سِيَّمَا إِذَا انْتَقَلَ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ: " «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟» " وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ: " «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟» " وَجَمَعَ بِحَمْلِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابَةِ وَالْأُخْرَى عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: " الْأَرْبَعِينَ " مَثَلٌ خَلْقُهُ تَارِيخٌ مَحْدُودٌ وَقَضَاءُ اللَّهِ الْكَائِنَاتِ وَإِرَادَتُهُ أَزَلِيٌّ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَرْبَعِينَ عَلَى أَنَّهُ أَظْهَرَ قَضَاءَهُ بِذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مَا أَضَافَ إِلَيْهِ هَذَا التَّارِيخَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: بِقَدَرٍ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَلَا تَرَاهُ.

قَالَ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ: فَكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى التَّحَاجِّ ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ حُجَّتَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُحَاجَّةُ وَهُوَ هُنَا اللَّوْمُ فَمُوسَى أَثْبَتَهُ وَآدَمُ نَفَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِشَيْءٍ سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ، وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّمَا ذَكَرَ الدَّعْوَى وَلَمْ يَذْكُرْ حُجَّةً.

أَجَابَ الْأَبِّيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَنْتَ أَبُونَا حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْأَبَ مَحَلُّ الشَّفَقَةِ، وَهِيَ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ مَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْبَاجِيُّ: لَيْسَ مَا سَبَقَ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يَرْفَعُ الْمَلَامَةَ عَنِ الْبَشَرِ لَكِنَّ مَعْنَاهُ قُدِّرَ عَلَيَّ وَتُبْتُ مِنْهُ وَالتَّائِبُ لَا يُلَامُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّ آدَمَ أَبُوهُ وَلَمْ يُشْرَعْ لِلِابْنِ لَوْمُ الْأَبِ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ تِلْكَ الْأَكْلَةَ سَبَبًا لِهُبُوطِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَسُكْنَاهُ بِهَا وَنَشْرِ ذُرِّيَّتِهِ فِيهَا وَتَكْلِيفِهِمْ لِيُرَتِّبَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ وَقَدْ فَعَلَ سَبَبَهُ فَفِيمَ اللَّوْمُ؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّ تَرْتِيبَ اللَّوْمِ عَلَى الذَّمِّ لَيْسَ أَمْرًا عَقْلِيًّا لَا يَنْفَكُّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ، فَإِذَا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَغَفَرَ لَهُ فَقَدْ رَفَعَ عَنْهُ اللَّوْمَ فَمَنْ لَامَ فِيهِ مَحْجُوجٌ مَغْلُوبٌ بِالشَّرْعِ.

وَقِيلَ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُبْ لَوْمَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ.

وَمَبَاحِثُهَا إِنَّمَا هِيَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ سَبَبٌ إِلَّا قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ ; وَلِذَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ; وَلِذَا قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَذَكَرَ فَضَائِلَهُ، أَيْ: كَمَا قَضَى تَعَالَى لَكَ بِذَلِكَ وَنَفَّذَهُ فِيكَ، كَذَلِكَ قَضَى عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُ وَنَفَّذَهُ فِيَّ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>