فَاسْتَخْرَجَ) أَيْ: أَخْرَجَ (مِنْهُ ذَرِّيَّةً وَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ) الْأَشْقِيَاءَ (لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ) لِأَنَّهُمْ مُيَسَّرُونَ لِذَلِكَ وَجُعِلَ كِلَيْهِمَا مَعًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَوَقَعَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ وَجَعَلَهَا دَارَ تَكْلِيفٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ لِبَيَانِ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَأَمَرَهُمْ بِجِهَادِ الْأَشْقِيَاءِ فَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ مَيَّزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وَأَهَّلَهُ فِي دَارِهِمْ، وَالْخَبِيثَ وَأَهْلَهُ فِي دَارِهِمْ، فَيَنْعَمُ هَؤُلَاءِ بِطِيبِهِمْ وَيُعَذَّبُ هَؤُلَاءِ بِخُبْثِهِمْ لِانْكِشَافِ الْحَقَائِقِ.
(فَقَالَ رَجُلٌ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَمَا فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ فِي نَحْوِهِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟) أَيْ: إِذَا سَبَقَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَمَلٍ ; لِأَنَّهُ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ « (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَيُهَوِّنُهُ عَلَيْهِ (حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ الْجَنَّةَ) » عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَحْضِ رَحْمَتِهِ.
( «وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ النَّارَ» ) وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَفِيهِ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ بَلِ الْمُوجِبُ لَهُمَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ وَالْخِذْلَانُ الْإِلَهِيُّ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، بَلْ وَهُمْ آبَاؤُهُمْ وَأُصُولُ أَكْوَانِهِمْ فِي الْعَدَمِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَدْأَبَ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهَا أَمَارَةٌ إِلَى مَآلِ أَمْرِهِ غَالِبًا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُ هَذَا الصَّحَابِيِّ مُطَالَبَةٌ بِأَمْرٍ يُوجِبُ تَعْطِيلَ الْعُبُودِيَّةِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ إِخْبَارَ الرَّسُولِ عَنْ سَابِقِ الْكِتَابِ إِخْبَارٌ عَنْ غَيْبِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَرَامَ أَنْ يَتَّخِذَهُ حُجَّةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فَأَعْلَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ مُحْكَمَيْنِ لَا يَبْطُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ: بَاطِنٌ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمُوجَبَةُ فِي حُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظَاهِرٌ وَهُوَ السِّمَةُ اللَّازِمَةُ فِي حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ.
وَهِيَ أَمَارَةٌ وَمُخَيَّلَةٌ غَيْرُ مُفِيدَةٍ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّمَا عُومِلُوا بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَتَعَبَّدُوا بِهَا لِيَتَعَلَّقَ خَوْفُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ بِالْبَاطِنِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْعَاجِلِ دَلِيلُ مَصِيرِهِ فِي الْآجِلِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute