للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فِكْرُهُ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ شِدَّةُ الْخَوْفِ وَكَثْرَةُ الْفِكْرَةِ، وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهْوَتِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحِ: " «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَقْتَصِدُ فِي مَطْعَمِهِ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ فَشَأْنُهُ الشَّرَهُ، فَيَأْكُلُ كَالْبَهِيمَةِ لَا بِمَصْلَحَةِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ.

وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ: قَدْ ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْصًا فِي إِيمَانِهِمْ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْكَافِرُ الْحَرَامَ، وَالْحَلَالُ أَقَلُّ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَضُّ الْمُسْلِمِ عَلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ كَثْرَتَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَوَاتُ الطَّعَامِ سَبْعٌ: الطَّبْعُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعَيْنُ، وَالْفَمُ، وَالْأَنْفُ، وَالْأُذُنُ، وَالْجُوعُ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا الْمُسْلِمُ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْكُلُ بِالْجَمِيعِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبْعَةِ فِي الْكَافِرِ صِفَاتٍ هِيَ الْحِرْصُ، وَالشَّرَهُ، وَطُولُ الْأَمَلِ، وَالطَّمَعُ، وَالْحَسَدُ، وَحُبُّ السِّمَنِ، وَسُوءُ الطَّبْعِ، وَبِالْوَاحِدِ فِي الْمُسْلِمِ سَدُّ خَلَّتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: السَّبْعَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْحَاجَةِ.

وَالْقَوْلُ الْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّامَ فِي الْكَافِرِ عَهْدِيَّةٌ، فَهُوَ خَاصٌّ بِمَعْنَى كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ التَّالِي، وَيَأْتِي تَفْسِيرُ الرَّجُلِ فِيهِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يَأْكُلُ قَلِيلًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» "، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: لِأَنَّ الْمُعَايَنَةَ وَهِيَ أَصَحُّ عُلُومِ الْحَوَاسِّ تَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: ١٧٣] (سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ ١٧٣) ، فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَجُلٌ وَاحِدٌ.

أَخْبَرَ الصَّحَابَةُ أَنَّ قُرَيْشًا جَمَعَتْ لَهُمْ، وَجَاءَ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا مَنْ لَا عِنَايَةَ لَهُ بِالْعِلْمِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>