بِمُبَاشَرَةِ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، فَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَيُخْبِرُونَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ مَثَلًا، أَوْ إِلْهَامٌ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: عَامَّةُ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْغَيْثِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَدْوِيَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لُطْفِ الرَّبِّ بِخَلْقِهِ، فَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالْأَدْوِيَةِ، وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ.
وَفِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَدَاءُ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ» "، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ إِبَاحَةُ التَّدَاوِي، وَإِتْيَانُ الطَّبِيبِ إِلَى الْعَلِيلِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُمْرِضُ وَالشَّافِي، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي، وَيَقُولُ: " «اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي يَا رَبِّ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، اشْفِ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» "، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ الْمُعَالَجَةَ إِنَّمَا هِيَ لِتَطْبِيبِ نَفْسِ الْعَلِيلِ، وَأُنْسِهِ لِلْعِلَاجِ، وَرَجَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ كَالتَّسَبُّبِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْبُرْءَ لَيْسَ فِي وُسْعِ مَخْلُوقٍ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ حِينِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْأَطِبَّاءَ يُعَالِجُ أَحَدُهُمُ اثْنَيْنِ عِلَّتُهُمَا وَاحِدَةٌ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَسِنٍّ وَاحِدٍ، وَبَلَدٍ وَاحِدٍ، وَرُبَّمَا كَانَا تَوْأَمَيْنِ فَيُعَالِجُهُمَا بِعِلَاجٍ وَاحِدٍ، فَيَصِحُّ أَحَدُهُمَا، وَيَمُوتُ الْآخَرُ، أَوْ تَطُولُ عِلَّتُهُ، ثُمَّ يَصِحُّ عِنْدَ الْأَمَدِ الْمَعْدُودِ لَهُ، انْتَهَى.
ثُمَّ حَدِيثُ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا، لَكِنَّ شَوَاهِدَهُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْنَدَةٌ كَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» "، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ» "، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رَفَعَهُ: " «تَدَاوَوْا يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا: الْهَرَمُ» "، وَفِي لَفْظٍ: " إِلَّا السَّامَ " بِمُهْمَلَةٍ مُخَفَّفًا، أَيِ الْمَوْتَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَوَاءَ لَهُ، فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ دَوَاؤُهُ الطَّاعَةُ لَيْسَ شَيْءٌ، لِأَنَّهَا دَوَاءٌ لِلْمَرَضِ الْمَعْنَوِيِّ كَعُجْبٍ وَكِبْرٍ، لَا الْمَوْتِ.
وَفِي قَوْلِهِ: " بِإِذْنِ اللَّهِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالدَّوَاءِ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ، بَلْ قَدْ يَنْقَلِبُ دَاءً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute