ثَبْتٍ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ: كَانَ أَثْبَتَ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) شَيْخِ الْإِمَامِ، رَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ.
(أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ) ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا أَرْسَلَهُ رُوَاةُ مَالِكٍ إِلَّا حَمَّادَ بْنَ خَالِدٍ الْخَيَّاطَ، فَأَسْنَدَهُ عَنْ أَنَسٍ فَأَخْطَأَ فِيهِ، وَالصَّوَابُ عَنْ مَالِكٍ، مُرْسَلٌ، وَالصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ( «سَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاصِيَتَهُ» ) ، أَيْ أَنْزَلَ شَعَرَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ، (مَا شَاءَ اللَّهُ) مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ لِتَمَسُّكِهِمْ فِي زَمَانِهِ بِبَقَايَا شَرَائِعِ الرُّسُلِ، أَوْ لِاسْتِئْلَافِهِمْ كَمَا تَآلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ.
(ثُمَّ فَرَقَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، رُوِيَ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، أَيْ أَلْقَى شَعَرَهُ إِلَى جَانِبَيْ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى جَبْهَتِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: " ثُمَّ أُمِرَ بِالْفَرْقِ فَفَرَقَ "، وَكَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ (بَعْدَ ذَلِكَ) حِينَ أَسْلَمَ غَالِبُ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَلَبَتِ الشِّقْوَةُ عَلَى الْيَهُودِ، وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمْ الِاسْتِئْلَافُ فَخَالَفَهُمْ، وَأَمَرَ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: " «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» "، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ غَيْرُهُ: وَلِأَنَّهُ أَنْظَفُ وَأَبْعَدُ عَنِ السَّرَفِ فِي غَسْلِهِ، وَعَنْ مُشَابَهَةِ النِّسَاءِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْفَرْقِ وَالسَّدْلِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ الشَّرْعُ بِهِ، لَكِنْ لَا وُجُوبًا ; لِأَنَّ مِنَ الصَّحْبِ مَنْ سَدَلَ بَعْدَهُ، فَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ وَاجِبًا مَا سَدَلُوا، وَزَعْمُ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ لِبَيَانِ نَاسِخِهِ وَتَأَخُّرِهِ عَنِ الْمَنْسُوخِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ نُسِخَ مَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَوَهُّمُ النَّسْخِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، قَالَ: وَهَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ حُبَّهُ مُوَافَقَتَهُمْ، وَمُخَالَفَتَهُمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً، وَحَدِيثُ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ: إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ فَرَقَهَا، وَإِلَّا تَرَكَهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ مَعَ أَوْصَافِهِ الدَّائِمَةِ، وَجِبِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْفَرْقَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ: حَدِيثُ هِنْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا لِمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ» .
(قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى شَعَرِ امْرَأَةِ ابْنِهِ أَوْ شَعَرِ أُمِّ امْرَأَتِهِ بِأْسٌ) ، لِجَوَازِ ذَلِكَ بِلَا شَهْوَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute