وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَكَانَ لَهُ مَنْ يُرَاعِي الْوَقْتَ بِحَيْثُ يَكُونُ أَذَانُهُ مُقَارِنًا لِابْتِدَاءِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبُزُوغِ، وَعِنْدَ أَخْذِهِ فِي الْأَذَانِ يَعْتَرِضُ الْفَجْرُ فِي الْأُفُقِ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِمْ أَصْبَحْتَ أَيْ قَارَبْتَ الصَّبَاحَ وُقُوعُ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَذَانُهُ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا فِي الْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ مِنْ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤَيَّدِ بِالْمَلَائِكَةِ فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو قُرَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا فِيهِ «وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَتَوَخَّى الْفَجْرَ فَلَا يُخْطِيهِ» ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ جَوَازُ أَذَانِ الْأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِالْوَقْتِ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَيْدِ يُحْمَلُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدَ أَنَّ أَذَانَ الْأَعْمَى لَا يَصِحُّ، وَتَعَقَّبَهُ السَّرُوجِيُّ بِأَنَّهُ غَلِطَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، نَعَمْ فِي الْمُحِيطِ لِلْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَتُهُ، وَفِيهِ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ لِلْبَصِيرِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَجَوَازُ ذِكْرِ الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَاهَةِ إِذَا كَانَ لِقَصْدِ التَّعْرِيفِ وَنَحْوِهِ، وَالْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَخَالَفَ النَّوَوِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهَلْ يُكْتَفَى بِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمْ، وَخَالَفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، وَتَعَقَّبَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: " «لَا يَمْنَعَّنَ أَحَدَكُمْ بِلَالٌ مِنْ سُحُورٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ» " وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَلَا يَدُلُّ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَرِدُ خِلَافُهُ وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ بِمَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ، نَعَمْ حَدِيثُ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ ثُمَّ أَبِي دَاوُدَ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَمَنَعَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضِعْفٌ، وَأَيْضًا فَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَكَانَتْ فِي سَفَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبٌ وَاضِحٌ، عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَنْقُولَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ فَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا وَمَعْنَاهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّدَاءَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يَكُنْ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَإِنَّمَا كَانَ تَذْكِيرًا أَوْ تَسْحِيرًا كَمَا يَقَعُ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ وَهَذَا مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ مُحْدَثٌ قَطْعًا، وَقَدْ تَضَافَرَتِ الطُّرُقُ بِلَفْظِ الْأَذَانِ فَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ مُقَدَّمٌ ; وَلِأَنَّ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ لَمَا الْتَبَسَ عَلَى السَّامِعِينَ، وَسِيَاقُ الْخَبَرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمُ الِالْتِبَاسَ، وَادَّعَى ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً وَفِيهِ نَظَرٌ، وَتَمَسَّكَ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لِمَذْهَبِهِ فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ لِمَا ذُكِرَ لَا لِلصَّلَاةِ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute