قَالَهُ الْحَافِظُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَجِئْ بِمَعْنَاهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ تَنُوبُ عَنِ الْأَسْمَاءِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَاهَا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: ١٩] (سورة الِانْشِقَاقِ: الْآيَةَ: ١٩) ، أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ فَعَنْ نَائِبٌ عَنْ الِاسْمِ، وَفِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَأَنَّ الْقَائِمَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَلَمْ يُذَكَرْ رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِشُهْرَتِهِ، وَأَنَّ الْمُسْتَغْرِقَ فِي الْعِبَادَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّدُّ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُمَا صَلَّيَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ، أَوْ كَانَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ تَنَفُّلٍ، قَالَهُ عِيَاضٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ: أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ.
(فَأَمَّا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَشَدِّ الْمِيمِ - (أَحَدُهُمَا) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فَرَأَى) دَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ أَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ، (فُرْجَةً) - بِضَمِّ الْفَاءِ، وَفَتْحِهَا - مَعًا، هِيَ الْخَلَلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، (فِي الْحَلْقَةِ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ خَالِي الْوَسَطِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا، وَهُوَ نَادِرٌ، وَالْجَمْعُ حَلَقٌ بِفَتْحَتَيْنِ.
(فَجَلَسَ فِيهَا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّحْلِيقِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ أَحَقَّ بِهِ.
(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - أَيِ الثَّانِي، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرِ لِإِطْلَاقِهِ هُنَا عَلَى الثَّانِي.
(فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.
(وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ) حَالَ كَوْنِهِ (ذَاهِبًا) أَيْ أَدْبَرَ مُسْتَمِرًّا فِي ذَهَابِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ، وَإِلَّا فَأَدْبَرَ بِمَعْنَى: مَرَّ ذَاهِبًا.
(فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -) مِمَّا كَانَ مُشْتَغِلًا بِهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، (قَالَ: أَلَا) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالتَّخْفِيفِ - حَرْفُ تَنْبِيهٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَمَعْنَاهَا التَّنْبِيهُ وَالِاسْتِفْتَاحُ مَحَلُّهَا، فَهِيَ حِرَفٌ يُسْتَفْتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى ذَلِكَ لِتَأَكُّدِ مَضْمُونِهِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، (أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى) - بِالْقَصْرِ - لَجَأَ (إِلَى اللَّهِ) تَعَالَى، (فَآوَاهُ) - بِالْمَدِّ - (اللَّهُ) إِلَيْهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ بِقَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمَدِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} [الكهف: ١٠] (سورة الْكَهْفِ: الْآيَةَ: ١٠) ، بِالْقَصْرِ: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: ٥٠] (سورة الْمُؤْمِنُونَ: الْآيَةَ: ٥٠) بِالْمَدِّ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ وَالْمَدُّ مَعًا، فِيهِمَا لُغَةٌ، وَمَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّهِ: لَجَأَ، أَوْ عَلَى الْحَذْفِ، أَيْ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى آوَاهُ: جَازَاهُ بِنَظِيرِ فِعْلِهِ بِأَنْ ضَمَّهُ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ، أَوْ يُؤْوِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ظِلِّ عَرْشِهِ، فَنِسْبَةُ الْإِيوَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ ; لِأَنَّهُ الْإِنْزَالُ مَعَهُ فِي مَكَانٍ حِسِّيٍّ، فَالْمُرَادُ لَازَمَهُ وَهُوَ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْمَجَازُ مَجَازَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ.
وَفِي التَّمْهِيدِ: أَوَى إِلَى اللَّهِ يَعْنِي فَعَلَ مَا يُرْضِي اللَّهَ فَحَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute