يَا سَهْلُ إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ صُوَرٌ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ؟ (قَالَ سَهْلٌ: أَلَمْ يَقُلْ إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا) - بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْقَافِ - أَيْ: نَقْشًا وَوَشْيًا (فِي ثَوْبٍ؟ قَالَ: بَلَى) ، أَيْ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، (وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي) لِلْبُعْدِ عَنِ الصُّوَرِ مِنْ حَيْثُ هِيَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَاصِلُ مَا فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَجْسَامٍ حَرُمَ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ رَقْمًا فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا حَتَّى الرَّقْمُ وَالتَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ ثَابِتَةَ الْهَيْئَةِ قَائِمَةَ الشَّكْلِ حَرُمَ، وَإِنْ قُطِعَتِ الرَّأْسُ، وَتَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ جَازَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَهَنُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا فَلَا، انْتَهَى.
وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ لِعَبِ الْبَنَاتِ.
وَكَذَا رَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ الْآثَارَ لَمْ تَتَعَارَضْ، وَهَذَا أَوْلَى مَا اعْتُقِدَ فِيهِ.
قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَتْنِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يَلْقَ أَبَا طَلْحَةَ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ قَالَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرْوِي حَدِيثَ مَالِكٍ هَذَا، وَأَظُنُّهُ لِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ مَاتَ أَبُو طَلْحَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ السَّمَاعُ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَلْحَةَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ لِمَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ، سَرَدَ أَبُو طَلْحَةَ الصَّوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، فَسَمَاعُ عُبَيْدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هُنَا صَحِيحًا فَكَيْفَ يُنْكَرُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ إِنْكَارِهِ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، مَرْفُوعًا: " «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ» "، فَقَالَ: خَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ، فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي النَّضْرِ اسْتَثْنَى مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ.
وَجَمَعَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مَعَ أَبِي طَلْحَةَ، وَلَيْسَ هَذَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ فَهُوَ غَيْرُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخُهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، انْتَهَى، مُلَخَّصًا.
وَحَدِيثُ ابْنُ شِهَابٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِإِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ بِإِسْقَاطِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي النَّضْرِ إِنْ كَانَ وَاحِدًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute