(ثُمَّ خَرَجَ بِهَا، فَنَصَبَهُ) ، أَيِ: الرُّمْحَ (فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتِ الْحَيَّةُ فِي رَأْسِ الرُّمْحِ وَخَرَّ) : سَقَطَ (الْفَتَى مَيِّتًا، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْفَتَى، أَمِ الْحَيَّةُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَلِابْنِ وَهْبٍ: " فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَيِّيَهُ لَنَا فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالُوا ذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَعُمُومِ بَرَكَتِهِ.
(فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» ) ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَذَا أَسْلَمَ بِغَيْرِهَا، فَيَلْزَمُ الْمُسَاوَاةُ فِي مَنْعِ الْقَتْلِ إِلَّا بِإِذْنٍ.
وَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْفَتَى مُسْلِمٌ، وَأَنَّ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ، وَإِنْ شُرِعَ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لَكِنَّ شَرْطَهُ الْعَمْدُ، وَالْفَتَى لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَ نَفْسٍ مَسْلَمَةٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُؤْذِيًا يَسُوغُ لَهُ قَتَلُ نَوْعِهِ شَرْعًا، فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ خَطَأً، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَسَقَةَ الْجِنَّ قَتَلَتْهُ بِصَاحِبِهِمْ عُدْوَانًا، وَإِنَّمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهَا التَّحَرُّزُ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، وَيُسَلِّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ.
( «فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ) ، قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ أَنَّ الْإِنْذَارَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يُنْذَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، انْتَهَى.
وَصِفَةُ الْإِنْذَارِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ: " قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا ظَهَرَتِ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ، فَقُولُوا لَهَا: نَسْأَلُكِ بِعَهْدِ نُوحٍ، وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ لَا تُؤْذِينَا، فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا» "، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ جِنَّانِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ، فَقُولُوا: أُنْشِدُكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ، أُنْشِدُكُمُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانَ أَنْ لَا تُؤْذُونَا، فَإِنْ عُدْنَ فَاقْتُلُوهُنَّ» "، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ لَا تَبْدُوا لَنَا، وَلَا تُؤْذُونَا.
قَالَ عِيَاضٌ: أَظُنُّهُ أَخْذَهُ مِنْ رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ: «إِنْ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا، فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا» .
وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ إِنْ لَبِثَتْ عِنْدَنَا، أَوْ ظَهَرْتَ لَنَا، أَوْ عَدْتَ إِلَيْنَا.
( «فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» ) ، وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ "، قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْإِنْذَارِ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُمَّارِ الْبُيُوتِ، وَلَا مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَأَنَّهُ شَيْطَانٌ فَقَتْلُهُ مُبَاحٌ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَبِيلًا إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلَهُ، كَمَا فَعَلَ بِجِنَّانِ الْبَيْتِ، وَمَنْ أَسْلَمَ لَمْ يُنْذَرْ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَمْرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute