عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ثُمَيْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» "، قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ إِنَّمَا عُبِّرَ بِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ فِي خِطَابِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ، فَكَنَّى عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ وَبِالْكَفِّ، وَعَنْ تَضْعِيفِ أَجْرِهَا بِالتَّرْبِيَةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ، وَيُؤْخَذُ بِهَا اسْتُعْمِلَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَاسْتُعِيرَ لِلْقَبُولِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
لَمَّا اسْتَعَارَ لِلْمَجْدِ الرَّايَةَ، اسْتَعَارَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِهَا التَّلَقِّيَ بِالْيَمِينِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَارِحَةَ، وَقِيلَ الْيَمِينُ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ، إِذِ الشِّمَالُ تُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَفِّ الرَّحْمَنِ وَيَمِينِهِ: كَفُّ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَيَمِينُهُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَاخْتِصَاصٍ، لِوَضْعِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كَفِّ الْآخِذِ وَيَمِينِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْقَبُولِ، وَقِيلَ: حُسْنُهُ، وَلَعَلَّهُ يَصِحُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفِّ: كِفَّةُ الْمِيزَانِ، وَكَفُّ كُلِّ شَيْءٍ كَفُّهُ وَكِفَّتُهُ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ بِالتَّلَقِّي بِالْيَمِينِ وَالْكَفِّ، لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَحْقِيقِهَا فِي النُّفُوسِ تَحْقِيقَ الْمَحْسُوسَاتِ، أَيْ لَا يَتَشَكَّكُ فِي الْقَبُولِ، كَمَا لَا يَتَشَكَّكُ مَنْ عَايَنَ التَّلَقِّيَ لِلشَّيْءِ بِيَمِينِهِ، لَا أَنَّ التَّنَاوُلَ كَالتَّنَاوُلِ الْمَعْهُودِ، وَلَا أَنَّ التَّنَاوُلَ بِجَارِحَةٍ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا نَتَوَهَّمُ فِيهَا تَشْبِيهًا، وَلَا نَقُولُ كَيْفَ هِيَ هَكَذَا، رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، انْتَهَى.
وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ، (يُرَبِّيهَا) ، أَيْ يُنَمِّيهَا لِصَاحِبِهَا بِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْكَمِّيَّةِ، قَالَهُ عِيَاضٌ: وَقَدْ يَصِحُّ أَنَّ التَّرْبِيَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنَّ ذَاتَهَا تَعْظُمُ، يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهَا، وَيَزِيدُهَا مِنْ فَضْلِهِ، لِتَعْظُمَ فِي الْمِيزَانِ، وَتُثْقِلَهُ، ( «كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ» ) - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ، وَشَدِّ الْوَاوِ - مُهْرَهُ لِأَنَّهُ يُفْلَى أَيْ يُفْطَمُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ فَطِيمٍ مِنْ حَافِرٍ، وَالْجَمْعُ أَفْلَاءٌ كَعَدُوٍّ وَأَعْدَاءٍ، وَحُكِيَ كَسْرُ الْفَاءِ، وَسُكُونُ اللَّامِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِذَا فَتَحْتَ الْفَاءَ شَدَّدْتَ الْوَاوَ، وَإِذَا كَسَرْتَهَا سَكَّنْتَ اللَّامَ، وَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ زِيَادَةً بَيِّنَةً، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نِتَاجُ الْعَمَلِ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ النِّتَاجُ إِلَى التَّرْبِيَةِ إِذَا كَانَ فَطِيمًا، فَإِذَا أَحْسَنَ الْعِنَايَةَ، انْتَهَى إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ لَا سِيَّمَا الصَّدَقَةُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ بِكَسْبٍ طَيِّبٍ، لَا يَزَالُ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهَا بِكَسْبِهَا نَعْتَ الْكَمَالِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى نِصَابٍ تَقَعُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ التَّمْرَةِ إِلَى الْجَبَلِ.
(أَوْ فَصِيلَهُ) ، وَهُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ ; لِأَنَّهُ فُصِلَ عَنْ رَضَاعِ أُمِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَوْ قَلُوصَهُ، وَهِيَ النَّاقَةُ الْمُسِنَّةُ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ: مُهْرَهُ، أَوْ وَصَيْفَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute