الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَعَنْ عُقُوبَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِطَوِيَّتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ: " «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» "، وَمَنَعَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ هَذَا الرَّدَّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ تَرْكُ عِقَابِ الْمُنَافِقِينَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فَلَيْسَ فِي إِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ عُقُوبَتِهِمْ.
ثَامِنُهَا: أَنَّ فَرِيضَةَ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ أَوَّلًا لِسَدِّ بَابِ التَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ نُسِخَ، حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَيُقَوِّيهِ نَسْخُ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ، وَكَذَا نَسْخُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّحْرِيقُ وَهُوَ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ أَحَادِيثُ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ وَمِنْ لَازَمِهِ الْجَوَازُ.
تَاسِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةُ لَا بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَنَصَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْعِشَاءِ، وَبَحَثَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هَدَّدَ بِسَبَبِهَا هَلِ الْجُمُعَةُ أَوِ الْعِشَاءُ أَوِ الصُّبْحُ وَالْعِشَاءُ مَعًا؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَإِلَّا وَقَفَ الِاسْتِدْلَالُ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
عَاشِرُهَا: أَنَّ التَّهْدِيدَ الْمَذْكُورَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي حَقِّ تَارِكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَشْرُوعِيَّةِ مُقَاتَلَةِ تَارِكِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّحْرِيقَ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ، وَبِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ إِذَا تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّرْكِ، قَالَ الْحَافِظُ: فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: " «لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ» "، وَلِقَوْلِهِ: " لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ. . . إِلَخْ " لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَائِقٌ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ: لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمْعِ.
وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: لَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ.
وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ» ".
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ لَا كُفْرٍ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ: " «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ» " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، لِأَنَّ تَحْرِيقَ بَيْتِ الْكَافِرِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُودُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي بَيْتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ نِفَاقُ الْكُفْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِتَضَمُّنِهِ أَنَّ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ، وَقَدْ نَهَيْنَا عَنِ التَّشْبِيهِ بِهِمْ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: خُرُوجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا مُنَافِقٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ انْتَهَى.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا يَشْهَدُهُمَا مُنَافِقٌ يَعْنِي الْعِشَاءَ