فلا تأمنن خلاًّ ولا تغتررْ به ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ
وقوله: فما الصِّلُّ إلا من قول بعض البلغاء، الدنيا كالحية ليِّنٌ مسُّها، قاتلٌ سمُّها.
ومن فصول الصاحب: مسُّ السيف ليِّن، ولكن حدُّه خشن، ومسُّ الحية ليِّنٌ ونابها أخشن.
ومن نوادر ابن الجزَري، قوله من قصيدة:
ولئنْ خبرْتَ بني الزَّمانِ وخِسَّةُ ال ... آباءِ تُنتجُ خِسَّة الأبناءِ
إيَّاكَ تركنُ منهمُ لمماذقٍ ... يُبدي الوفاءَ ولاتَ حين وفاءِ
وتجنَّبنْ من لينِ ملمسِ عطفه ... فالعضبُ يصدأُ متنهُ بالماءِ
وللحصري في هذا المعنى:
كم من خليلٍ عندي شهدهُ ... حتى بلوتُ المرَّ من أخلاقهِ
كالملحِ يُحسبُ سكَّراً في لونهِ ... ومجسِّه ويحولُ عندَ مذاقهِ
وللزُّهيري:
يا من تلبَّس في الفخارِ بلُبسهِ ... والجهلُ منه مركَّبٌ من لُبسهِ
الفضلُ عند المرءِ يكسيه سناً ... وسناؤه يكسيه رونقَ حسنهِ
لا تزدري برثيتِ خلقة ثوبهِ ... عند التنفُّسِ في الكلام لنفسهِ
من كان من نوعِ الكمالِ مُكمَّلاً ... نال الغنى من فضلهِ مع جنسهِ
وله:
يا من إليَّ قد وشى ... بنقلِ سوءٍ ولغا
مذمَّتي سمعتُها ... من الذي قد بلَّغا
في المثل: مبلِّغ السوء كباغيه.
وقيل أيضاً: " ما غاظك إلا من بلغك "، " وسبَّك من بلَّغك السَّبَّا " و " المبلِّغ أحد الشَّاتمين ".
وراوية الهجاء أحد الهاجين، والسامع للغيبة أحد المغتابين.
وله:
إنَّما القاضي لمُستثقلٌ ... في اللفظِ يا صاحِ مع المعنى
يظهرُ فيه النَّصبُ من جرِّه ... وحظُّه في السم كالمعنى
أورد هذين البيتين في شرحه على لامية ابن الوردي، عند قوله:
إنَّ للنَّقصِ والاستثقالِ في ... لفظةِ القاضي لَوَعظاً ومثلْ
أمين الدين بن هلال الصالحي أحد الشُّهود العدول، لكنه عن الخير من العدول.
فهو إن لم يكن في دين الصابي، فقد نزع بسلبه الأعراض منزع المتصابِي.
فكم حرٍّ مدحه ثم ثلبه، وكم عرضٍ كساه ثم سلبه.
فهو شاعرٌ تنمُّ أفكاره عن أسرار العيوب، وكاتب يرشحُ بمداد قلمه ذنوب الذُّنوب.
إلا أنَّ كلِمه وقلمه لم يرميا قطُّ بكلال أو ملال، وإذا كتب أو أنشأ أراك يد ابن هلال، تنقل عن فم ابن هلال.
فمن أهاجيه قوله في بعض الأدباء:
يخوضُ بعِرضٍ من غدا عارَ دهرِهِ ... ومن هو أدنَى من سجاحٍ وأكذَبُ
ومن أقعدتْهُ همَّةُ المجدِ والعُلا ... وطارتْ بهِ للخِزيِ عنقاءُ مُغرِبُ
ومن كانَ في عهدِ الحداثةِ ناقةً ... يُقادُ إلى أردَى الأنامِ ويُركبُ
وقدْ كانَ قصدِي أن أبيِّنَ وصفهُ ... ولكن إهمالُ القبائِحِ أنسَبُ
ومما ينسب إليه من المجون الذي يزري بسلافة الزَّرجون، أنه دخل على الرئيس أبي السُّعود بن الكاتب، فأنشده بديهاً:
يا من بهِ رقَّ شِعري ... وجالَ في الفِكرِ وصفُهْ
قدْ مزَّقَ الدَّهرُ شاشي ... والقصدُ شاشٌ ألفُّهْ
من هذا، وهو أحسن ما سمعت في طلب حلَّةٍ قول الشِّهاب:
حالِي يستنجِزُ الأماني ... ويطرُدُ الخُلفَ من وعودِهْ
وحلَّتي كلُّها عيونٌ ... ترنُو إلى مجدِهِ وجودِهَ
وكان بينه وبين عبد الحق الحجازي عهودٌ موثَّقة، ومودِّة كمائمها عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر معتَّقة.
ثم انقطع أمين الدين، فكتب إليه يستعطفه:
طالَتِ الأشواقُ وازدادَ العَنا ... وتمادَى الهجرُ فيما بينَنَا
فامنحوا القُربَ محِبًّا مخلِصاً ... فلعلَّ القُربَ يشفي ما بِنا
ليسَ في هذا عليكُم كلفةٌ ... إنَّما نطلبُ شيئاً هيِّنَا
فراجعه بقوله:
أنا في البعدِ وفي القربِ أنا ... ليسَ في الحالينِ لي عنكُم غِنى
أفضلُ الأشياءِ عندِي حبُّكم ... وهو في وَسْطِ فؤادِي مكِّنَا