للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاضَ اللِّئامُ وغاضَ كلُّ مُمَنَّعٍ ... وسطَا بِسطوِ البأسِ كلُّ مُجَهَّلِ

وتوزَّعتْ نُوَبُ النَّوائبِ وانثنَى ... فيها الكِرامُ بِذِلَّةٍ وتملمُلِ

وارتاحَ منها كلُّ خَبٍّ جاحدٍ ... وبها رَقَى العلياء كلُّ مُعلِّلِ

محمد بن تقيِّ الدين الزُّهيرِيِّ زهرة الأدب ونزهته، وخلسة الحظِّ ونهزته.

ومن تخمَّرت طينته بماء اللَّباقة، فأفرغن جِسماً في قالب اللَّياقة.

أدركته وقدُّه من الهرم يرتعش، لكن بمنادمته الرُّوح تنتعش.

وسمعتهم يقولون: إنه في ريعان غضارته، كان محسود الغصن الفَيْنان في نضارته.

ثم مَحَا سِنُّه محاسِنه، ولكن يعزُّ على ذي لسَنٍ أن يلاسِنه.

وعهدت أبي بوَّأهُ الله دار رضوانه، يميِّزه بالفضل عن أخدانه وإخوانه.

ويقول: هو تامُّ في آلته، لو أن قلبه متماسكٌ متمالكٌ، كاملٌ في حالته، إلا أن مدد صبرِه متفانٌ متهالك.

وقد رأيت له شعراً قذف به بحر طبعه، فذكرت منه ما يدلُّ على فضله دلالة الماء على صفاء نبعه.

فمنه قوله:

إذا زرتَ الصَّديقَ الشَّهرَ يوماً ... يرى إكرامَ مثواكَ الثَّوابا

وإن كرَّرته يوماً فيوماً ... ولم تحُزِ السَّلامَ ولا الخِطابَا

فإنَّكَ أُبْتَ للطَّاغي مآباً ... جزاءً لا عطاءَ ولا حِسابَا

وقوله:

صدِيقُكَ إن تزُرهُ بِصدقِ وُدٍّ ... فقلٍّلْ من زِيارتِكَ الزِّيارهْ

فزُرْ غَبًّا إذاً تزدادُ حُبًّا ... وخفِّفْ فالزِّيارة قيل غارَهْ

هذا الباب، مما حرَّض فيه أولو الألباب، والحديث المذكور فيه دستور العمل بين الأحباب.

وفي عقده جمعٌ كثير، في نظِيم لهم ونثِير.

فمن ذلك:

إذا شئتَ أنْ تُقْلَى فزُرْ متواتِراً ... وإن شئتَ أن تزدادَ حبًّا فزُرْ غَبَّا

ومنه: الزيارة زيادةٌ في الصَّداقة، وقلتها أمانٌ من الملالة، وكثرتها سببٌ للقطيعة، وكلُّ كثير عدوُّ الطَّبيعة، وما أحسنَ ما قال صاحِب الشَّريعة: " زُّرْ غَبًّا تزدد حُبًّا ".

ومن هذا الباب قول الآخر:

عليكَ بإقلالِ الزِّيارة إنَّها ... إذا كثُرتْ كانتْ إلى الهجرِ مسلَكَا

فإني رأيتُ القَطْر يسأَمُ دائِماً ... ويُسأَلُ بالأيدِي إذا هوَ أمسَكَا

وقوله:

أقلِل زِيارَتك الصَّدي ... قَ تكون كالثَّوبِ استجَدَّهْ

إنَّ الصَّديق يُمِلُّهُ ... أن لا يزال يراك عنْدَهْ

وقول أبي تمَّام:

وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيْهِ فاغترب تتجدَّدِ

فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زِيدتْ محَبَّةً ... على النَّاسِ إذ ليستْ عليهم بسرمَدِ

وكان للبهاء السنجاري صاحبٌ، وكان بينهما مودةً أكيدة، واجتماع كثير، ثم جرى في بعض الأيام عتاب، وانقطع ذلك الصاحب عنه، فسيَّر إليه يطلبه؛ لانقطاعه، فكتب إليه بيتي الحريري، اللَّذين في المُقامة الخامسة عشرة:

لا تزُرْ من تُحِبُّ في كلِّ شهرٍ ... غيرَ يومٍ ولا تزِدْهُ عليهِ

فاجتلاءُ الهِلالِ في الشَّهرِ يومٍ ... ثمَّ لا تنظُرُ العيونُ إليهِ

فكتب إليه البهاء من نظمه:

إذا حقَّقتَ من خِلٍّ وِدادا ... فزُرهُ ولا تخف منه مَلالا

وكُّن كالشَّمسِ تطلُع كلَّ يومٍ ... ولا تكُ في زيارتِهِ هِلالا

قلت: هذا قليل، والكثير يدعو في الزِّيارة إلى التَّقليل.

وللزُّهيري:

ألا رُبَّ من تحنو عليه تلطُّفاً ... ويُعجبكَ القولُ الذي منه صادرُ

وإن تختبرْ منه طويَّته إذاً ... وناشدْتها ساءتكَ منه الضَّمائرُ

فلا تغتررْ في لينِ قولٍ وتأمننْ ... إذا لم تطب منه لديكَ المخابرُ

فما الصِّلُّ إلا ليِّنُ اللَّمسِ ظاهراً ... وباطنُه سمٌّ ومنه التَّحاذرُ

ألمَّ في هذه الأبيات بقول عبد الحق الحجازي:

ألا رُبَّ من تحنو عليه ولو ترى ... طويَّتهُ ساءتكَ منه الضَّمائرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>