يقول ما يشاء فتستحسنه، وتريد الطير تحكيه فلا تحسنه.
وقد أثبتُّ له ما يسترقص الجمادات طربا، ويترك في كلِّ قلبٍ مضطرَبا.
فمنه قوله:
عجزَ الرُّفاةُ عن الحجى ورِقائِه ... وكذا الأُساةُ عن الهوَى ودوائِهِ
ثكلتْهم الأعشابُ ويحَ كِبادِهم ... لم يعلموا ما حلَّ في سودائِهِ
حلوا المراكِب والغرائِم واتركوا ... كلاًّ يروحُ مزمَّلاً ببلائِهِ
أبَنِي الصَّبابة والهوَى من بعدِنا ... إنِّي لكم هيهات من زرقائِهِ
ليس الهوَى بسفاهةٍ من كالحٍ ... فدعُوا الغرامَ ومنتدَى عدوائِهِ
إنَّ الصِّيانةَ واللَّطافةَ والحيَا ... علمٌ عليه يدلُّ من أسمائِهِ
فهي الأمانةُ أنبأتْ عن فضلِ من ... فتقَ العبيرَ وخصَّه بردائِهِ
وقوله من أبيات:
لئِن كنتُ أسعَى كلَّ حينٍ إليكُمُ ... وتعكسُني الآمالُ عن حبكُم غصبَا
فلِي أسوةٌ بالنجمِ للشرقِ سِيرُه ... مدَى الدهرِ والأفلاكُ تنجو به الغربَا
هذا من قول الأرَّجاني.
أنحوكُمُ ويردُّ وجهِي القهقَرِي ... عنكُم فسيْري مثل سير الكوكبِ
فالقصدُ نحو المقصدِ الأقصَى لكُم ... والسيرُ رأى العينِ نحو المغرِبِ
وقوله:
سلبُوا الغصونَ معاطِفاً وقُدودا ... وتقاسموا وردَ الرياضِ خُدودا
طعنُوا القلوبَ بما تلاشى دونه ... طُعْنُ الرماحِ وسدَّدُوا تسديدا
فتنُوا الورى بلواحِظٍ وتجاوزوا ... بالفتكِ من نهبِ العقولِ حدودا
وتقاسموا أن لا يُراعوا ذِمةً ... لمتيَّمٍ أو يحفظون عهودا
تركوا الحُلِيَّ شهامةً واسْتبدلوا ... حُللَ المحاسنِ والبهاءِ ورودَا
فغدَوا بها مستعبدين أُلِي النُّهى ... مما يشيقَك طارِفاً وتليدَا
نظمُوا الثَّنايا في المباسِمِ لؤلؤاً ... تحت الزُّمرُّدِ والعقيقِ عقودَا
تَخِذوا البنفسج في الشَّقيق عوارضاً ... والياسَمين معاصِماً وزُنودَا
بدَلوا الخُصورَ من الخناصِر رِقَّةً ... واسْتبدلوا حُقَقَ اللُّجين نُهودَا
فهُم الملُوك الصائلون على الورَى ... وهُم الظِّباءُ القائدون أسودَا
نظروا إلى الجوْزاءِ دون محَلِّهمْ ... فعدَوا على هامِ السِّماكِ قُعودَا
من كلِّ من جعل الدجى فرعاً له ... والبدرَ وجهاً والصباحَ الجِيدَا
رَيَّان من ماء النعيمِ إذا بدَا ... خرَّتْ له زُهرُ النجومِ سجودَا
كالماء جسما غيرَ أن فؤادَه ... أضحى على أهلِ الهوَى جُلمودَا
تزدادُ من فرطِ الحياءِ خدودُه ... عند اسْتماع تأوُّهي توْريدَا
لو أبصرَ النُّصاحُ فائقَ وجهِه ... عذَلُوا العَذولَ وحاربوا النَّفنِيدَا
أو لو رآه راهبٌ من بيعةٍ ... ألقى الصليبَ ولازم التَّوحيدَا
كم ذا تُذكِّرني العقيقَ خدودُه ... والطَّرف حاجِرَ والعِذارُ زَرُودَا
وإذا بدَا مُتلفِّتاً من عُجبِه ... بالجِيد أذكرني طُلاه الغِيدَا
ما الظَّبيُ أحسنَ لفتَةً من جِيدِه ... عند النِّفارِ وإن أقامَ شهودَا
يحْمِي اللَّمى والخدُّ عقربُ صُدغِه ... عن واردٍ أو من يروم وُرودَا
قد رقَّ منه الخصْر حتى خِلتُه ... عند اهْتِزاز قوامِه مفْقودَا
ما خُلْقُه إلا النَّسيمُ إذا سرَى ... بين الرياضِ وإن طالَ صُدودَا
قلت: لولا أن قصدي استجلاب الثناء لهذا الأديب، لضننت بهذه الأبيات خوفاً من أن لا يراعى حقها عند أهل التأديب.
ولَوَدَدْتُ لو علِّقت في جبهة الأسد الكاسر، أو ضُمَّت للنيِّرات في الفلك العاشر.