وقد عارض بها الأبيات المشهورة، المنسوبة إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه:
غصَبُوا الصباحَ فقسَّموه خُدودا ... وتناهبُوا قُضُبَ الأراكِ قدودَا
وتظافروا بظفائرٍ أبْدتْ لنا ... ضوءَ النهارِ بليلها معقودَا
صاغوا الثغورَ من الأقاحِ وبينها ... ماءُ الحياةِ قد اغْتدى مورودَا
ورأَوْا حصى الياقوتِ دون نحورِهم ... فتقلَّدوا شُهْبَ النجوم عُقودَا
واسْتودعوا حدَقَ المها أجفانهمْ ... فَسموْا بهنَّ ضَراغِماً وأسودَا
لم يكفِهم حدُّ الأسِنَّة والقنَا ... حتى اسْتعاروا أعيُناً ونُهودَا
رُوِي مسنداً إلى أبي عمر بن شامل المالقي قال: لقيت يوماً الشيخ الخطير أبا محمد بن علي المالقي، وكان رجلاً مجاب الدعوة فقال لي: أنشدني.
فأنشدته الأبيات المنسوبات إلى محمد الشهير بعبد الله، وهي هذه المذكورة.
قال: فلما أتممتُها صاح الشيخ، وأُغمَى عليه، وتصبَّب عرقاً، ثم أفاق بعد ساعة، وقال: يا بني، اعذرني، فشيئان يقهراني، ولا أتملَّك عندهما نفسي: النظر إلى الوجه الحسن، والشعر المطبوع.
وبيت النهود مما يكثر السؤال عنه، وقد رأيت في شعر ابن عمار الأندلسي بما هو مثله. وهو:
كُفَّ هذا النَّهدَ عنِّي ... فبقلبي منه جُرْحُ
وهو في صدرِك نهدٌ ... وهو في صدري رُمْحُ
وأنا لم أدرك وجهه، ثم رأيت في شعر ابن خلوف ما بيَّنه بعض البيان، في قوله:
وقُدودٍ كأنَّهنَّ رِماحٌ ... قد علَتْها أسِنَّةٌ من نهودِ
وأنشدني الموصلي لنفسه قوله:
هم يحسَبون دموعَ العينِ مذ عطَفوا ... هي الدموعُ التي يوم النَّدى تَرِدُ
وإنما هي نصلٌ حلَّ في كبِدي ... من نَبْل جَفنٍ ولم يشعُر به أحَدُ
فانْحلَّ ماءً أمْسَى يُقَطِّره ... من اللهيبِ دموعاً ذلك الكبِدُ
ومن غزلياته الرقيقة، التي هي السحرُ في الحقيقة، قوله:
أما وبياضِ الدرِّ من ذلك الثغرِ ... وما فيه من خمرٍ وناهِيكَ من خمرِ
أماناً وما بالطرفِ من كلِّ صارمٍ ... يجول بأجفانٍ مُلِئن من السحرِ
يصول به في الناسِ ألطفُ شادِنٍ ... بقلبٍ على العشَّاقِ أقسَى من الصَّخرِ
أسال عِذاراً فوق خدٍّ كأنه ... سلاسلُ مسكٍ في صِحافٍ من التِّبرِ
وإلا فنملٌ دبَّ فوق شقائقٍ ... مبلَّلُ أطرافِ الأناملِ بالحِبرِ
بعيدُ مناطِ القرطِ أشهَى لمُعسرٍ ... إذا ماسَ تِيهاً بالدلالِ من اليُسرِ
وأحلَى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما ... وأوقعُ معنًى في النفوسِ من النصرِ
يكادُ من القمصانِ لولا وِشاحه ... إذا فكَّتِ الأزارارُ من لطفِه يجرِي
فكم ثمَّ دون الجِيدِ منه مآرِبٌ ... من الخَصرِ تدعو العاشقين إلى النَّحرِ
فمذ خبَّروني أن كوكبَ خدِّه ... يُقارنه المرِّيخُ أحسستُ بالشَّرِّ
ركبتُ هواه بُكرَةَ العمرِ راكِباً ... مطايا شبابي وارتياحي مع الفجرِ
فأشفقتُ منه في الظَّهيرة راجِلاً ... يُرِيني نجومَ الأُفقِ في ظُلمةِ الهجرِ
متى قلتُ هذا الصُّدغُ أبدَى عقارِباً ... وإن رمتُ أجنِي الوردَ أحماه بالجمرِ
أحماه مثل حماه، إلا أنه يقال فيما امتنع وتُنودِر، كما هنا.
وإن مِلتُ نحو الثغرِ قالتْ عيونُه ... يَزيدكَ هذا الخمرُ سكراً على سُكرِ
قريبُ مرام النَّفس لطفاً وإنه ... لأعلَى منالاً في الأنامِ من البدرِ
ترقَّى به شعرِي فعزَّ منالُه ... وأمسَى كعقدِ الدُّرِّ يزهو على الصَّدرِ
لئِن جادتِ الأيامُ يوماً بوصلِه ... يميناً فإني قد صفحتُ عن الدهرِ
قوله: وإلا فنملٌ إلخ، من قول الوزير المغربي:
أوحَى لوجنتِه العِذارُ فما ... أبقَى على ورَعي ولا نُسكِي