وكأن نملاً قد دببنَ بها ... غُمِستْ أكارِعهنَّ في مِسكِ
ثم رأيت ما هو عين المأخذ في قول العز البغدادي:
كأن عِذارَيهْ اللَّذين تراسَلا ... هلالان من مسكٍ وبينهما بدرُ
مُنمْنمَةٌ فوق الخدودِ كأنها ... مشَى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبْرُ
وقد ضمَّن هذا المصراع بعينه، في أبياته المشهورة، حيث قال:
أنَبتُ عِذارٍ أم شائقُ روضةٍ ... مشى فوقها نملٌ بأرجلِه حِبرُ
أم العنبرُ المفْتوتُ من فوق وجنةٍ ... أسالتْه نار الخدِّ فانْبهمَ الأمرُ
فحيَّى عِذاراً أذهل الصبُّ مذ بَدَا ... وإن ضلَّ فيه العقلُ واختلطَ الفكرُ
يتيهُ به لدْنُ القَوامِ مهفْهَفٌ ... له في اختلاسِ العقلِ من حُسنِه عُذْرُ
هِلالٌ إذا ما قلت أمسى جَبينه ... صدقْتَ ولكن دون طلعتِه البدرُ
تعلَّم منه الظبيُ لفتةَ جِيدِه ... ومن طرفِه الوسْنانِ يُسْتنبَط السحرُ
متى صافحتْ سمْعي رقائقُ لفظِه ... ترى كلَّ عضوٍ داخلَهُ السكرُ
يُمازج ألفاظَ البلاغة صوتُه ... فيبدو لنا دُرًّا وفي ضِمنه خمرُ
وتشكو ارتجاجَ القُرطِ صفحةُ جِيدِه ... كما بات يشكو من غدائرِه الخصرُ
يخبِّر عن كأسِ المَنونِ بصَدِّه ... ويقْتلني منه إذا هجَر الهجرُ
به غزَلي أضحى وفيه مدائِحي ... ومنِّي لمعنى حسنِه النظمُ والنثرُ
وقوله: يكاد من القمصان لولا وشاحه، من قول بعضهم:
أخْشى الْتماسَ يديْه من ترَفٍ به ... وأظنُّه لولا الغلائِلَ سالا
خالد الكاتب:
قد صاد قلبِي وصار يملكهُ ... فكيف أسلُو وكيف أترُكُهُ
رطيبُ جسمٍ كالماءِ تحسَبه ... يسلُك في القلبِ منه مسْلَكُهُ
يكاد يجري من القميصِ من النِّ ... عمةِ لولا القميصُ يُمسِكُهُ
وقوله: فأشفقت منه إلخ، العرب تصف اليوم الشديد بظهور النجم فيه.
قال أبو صخر الهُذليّ:
إنِّي أرَى والطرف في سَيْرِي ... وَضَحَ النهارِ وعالِيَ النَّجمِ
وقد تصرف فيه المتأخِّرون وتظرَّفوا، كابن لؤلؤ في قوله:
أمولايَ أشكو إليك الخُمارْ ... وما فعلتْ بي كؤوسُ العُقارْ
وجوْرَ السُّقاةِ التي لم تزلْ ... يُريني الكواكب وسْطَ النهارْ
ولمجير الدين بن تميم:
بأبي أهيَفَ تبدَّى وحَيَّى ... بابتسامٍ عدِمتُ منه اصطبارِي
فأراني بوجْهه ومُحيَّا ... هُ نجوماً أُطْلعْنَ وَسْط النهارِ
ولقد أبدع وأغرب الشهاب الخفاجي، في قوله من قصيدة نبويَّة:
أتى يومَ بدرٍ وهو بدرٌ تَحُفُّه ... نجومُ سماءٍ أطْلعتْها كتائبُهْ
فمذ برزوا في النَّقعِ شاهدَتِ العدى ... بهم يومَ بُؤْسٍ لا تغيبُ كواكبُهْ
وللمترجم معارضاً أبيات الشاب الظَّريف، في قوله:
يا أحكمَ الناسِ أسيافاً وأسْبقهُمْ ... في مهجةِ الصبِّ فتكا دونه الأجَلُ
وأنورَ الوجهِ في الدَّيْجورِ من قمرٍ ... تحت الأكاليلِ مسبولٌ ومُنْسدِلُ
ما السحرُ ألْعبَ في الألبابِ من حَدَقٍ ... دار الشُّمول به من طُرفِك الكَحِلُ
كلا ولا البرقُ للأبصار أخطفُ من ... شقائقِ الخدِّ إن وافَى بك الخجلُ
من نظمِ ثغْرك وهو الدرُّ مبتسِمٌ ... خمرٌ يزيدك فيه الشُّهدُ والعسلُ
في فترة الحسنِ من لَحْظَيْك هل فتكتْ ... بواترُ الطرفِ أم من قدِّك الأسَلُ
ومذْ تمادتْ بنا الآجالُ واختلفتْ ... عقائدُ القوم مَن للحبِّ قد جهلُوا
لو يدرِ ما الصحُو مذ بانتْ ركائبكُمْ ... صريعُ جَفنٍ لأرباب الهوى ثَمِلُ
أستودعُ الله قلباً سار مرتحِلاً ... بالخُرَّدِ الغيدِ ماذا السهلُ والجبلُ
وأبيات الظَّريف هي هذه: