ثم ركبنا الطريق، وفي القلب إلى الخريق أشدُّ الحريق.
فلم تكن إلا هنيئة وصلنا فيها الحرم الآمن، وبثثنا ما في الضَّمائر من الشوق الكامن.
وفارقت رفيقي وأنا على عهده الأمين، وذهب ذات الشِّمال وذهبت ذات اليمين.
وآليت لا تحرَّيت كرى ثانيا، ولا ألويت عنان عزمي لثنيته ثانيا.
ولو جعلت الجبال دكًّا، وأعطيت أرض الحجاز ملكاً.
وأنشدت:
إن كرى خصمُ حياتِي فلا ... رأيتهُ أخرَى ولو في كرَى
فراحتِي من يومِهِ أصبحتْ ... كواصِلٍ لِما رأتْني كرَى
وإن من أقطعِ روعاتِهِ ... لجُّ المكارِي في كِراما كرَى
وكتبت إليه من دمشق: أهدي من طيِّب التَّحايا، عدد فضائل سيِّدي السَّامية، ومن التَّحيَّات المقرونة بنشر المزايا، قدر أيادِيه الفائضة النَّامية.
وأما تشوُّقي للقائه، وتشوُّفي لتلقِّي الأخبار من تلقائه. فكما قلت:
شوقي لتلك اللُّقيا ... شوقُ الرُّبى للسُّقيَا
وحقِّ من ميَّزه ... بين الورَى للعليَا
مااعْتضتُ عنه بديلاً ... بكلِّ من في الدُّنيَا
وقلب سيدي شاهدٌ بودٍّ منِّي مرسل متَّصل، وحديث دعاءٌ مرفوع إلى القبول غير مقطوع ولا منفصل.
وغاية المسْئول، ونهاية المأمول، أن ييسِّر الله تعالى حالةً يعود بها الأنس إلى أحسن نضرته، ويعيد لنا تلك الأوقات السعيدة المسعودة بحضرته.
إبراهيم بن محمد السَّفرجلانِي أحسن المحاسن العصريَّة، وآدابه أذكى الرياحين الطَّريَّة.
نبغ نبغة الغصن النَّضير، فجاء بحمدِ الله عديم النَّظير.
فطلاقته لو خلِعت على الدهر ما ريعَ به فؤاد، وغُرَّتُه لو سالت بليل السَّليم ما بقيَ بها سواد.
صقل نوره قبل انشقاق الكمائم، وتطوَّق العلياء قبل أن يتطوَّق التَّمائم.
ومع ذلك فلا تُلفَى الدَّنِيَّة لديه، ولا تألف الفحشاءُ بُرْدَيه.
وهو يهتزُّ لكلِّ لُبانة، كأنه عِطف بانَهَ.
ويترنَّح غصناً رطيبا، ويهُبُّ عرفاً عطِراً وطِيبا.
وهو حليفي الذي ارتبطت معه على وُدٍّ مُؤثَّل، وأليفي الذي شخصه نأى أو دنا في عيني ممثَّل.
ما زلت في حبِّه متَّصل العلائق، وكلانا على المودَّة مُصفَّى الخلائق.
وأنا أوصَف لبدائعه، من الزُّجاج لودائعه.
وأكْلف ببنات فكرِه، من سَمَر الكرام بذكْرِه.
ولي في بقائه أملٌ أرجو من الله أن لا يفيته، وهذا دعاءٌ بظهر الغيب لو سكَتُّ كُفيتُه.
وقد تناولت من أشعاره ما يطيب استعذابه، وأثبتُّ منه ما يستدعي القلبَ إليه نِزاعه وانْجذابُه.
فمن ذلك قوله:
جُؤذُرٌ عن من ظِبا تيْماءِ ... ذو جفونٍ تصيدُ بالإيماءِ
ليِّنُ العِطْف كالقضيب ولكن ... قلبه مثل صخرةٍ صمَّاءِ
عرَبِيُّ النِّجار إن نسبوه ... نسبوه إلى ابنِ ماءِ السَّماءِ
مولعٌ بالجيادِ يختار منها ... ما يُجارِي سِربَ القطا للماءِ
عَمُّموه بشملةٍ فاجْتلينا ... منه بدراً يضيء في الظَّلماءِ
سَلَّ صمْصامَ لحظِه وتصدَّى ... في طريق الهوى لسفكِ الدماءِ
وقوله مضمِّناً:
لما غدتْ وجناتُه مرقومةً ... بعِذارِه وازْداد وَجْدُ مُحبِّهِ
نادى الشَّقيقُ بها زَبرْجَدَ صُدغِهِ ... يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ بهِ
وكتب إلي، ويخرج منه اسم محمد بطريق التعمية:
مولاي هل تحظَى بقربِك مهجةٌ ... أطَلْتَ بنيرانِ البِعاد عذابَها
وهل لأُوامِ القلب يوجَد مخْمِدٌ ... فحبَّتَه حَرُّ الفؤاد أذابهَا
فأنشدته قولي، ويخرج منه اسم إبراهيم:
إذا أعوَز الرِّيُّ المُجِدُّ بهمَّةٍ ... ونازلَه كربٌ مُلِحٌّ وتبْريحُ
فذكرُك ماءٌ للسبيلِ ارْتوَى به ... صَداهُ وفيه الرَّاحُ للقلبِ والروحُ
وعمله كله فارسيّ، وإليه الإشارة بالرَّيّ البلدة المشهورة في العجم، والماء: آب، والسبيل: راه، وره، كما يقولون للقمر: ماه، ومه. وفيه صنعة باعتبار أن إبراهيم يُكتب بألف وبدونها، فلك الخيار فيه. والراح: مي، وقلبها: يم.
وسمع قولي، من أبيات: