وأذكر يوماً مرَّ لي معهم في روض اخضرَّت أشجاره، وتنفَّست عن المسك أسماره.
مهزَّة نبته ريَّانة، وصبوات سحبه حنَّانة.
ماؤه يبوح صفاؤه بأسراره، وتلوح حصباه في قراره.
ونحن ننفض أعطافنا أريحيَّةٍ، ونتهادى رياحينه تحيَّة.
وبيننا حديث مستعذب، يهزُّ العطف اهتزاز العذب.
فقلت أصفه:
لله يومُ الطائفِ البهجِ الذي ... نِلنا به أسنى منًى وأماني
مع فتيةٍ غُرِّ الوجوه حديثُهم ... مسترقصٌ لمعاطف الأغصانِ
رأتِ انتظامَ كلامهم أزهارُه ... فتناثرتْ في ساحة البستانِ
وكذا الدَّراري لم يرُقها نظمها ... فرمتْ بأنفسها إلى الغُدرانِ
ولما فارقتهم وجئت إلى مكة على طريق كرى، وهو الذي يقول فيه شاعرهم:
عُجْ عن كرى فهو مزيجُ الكرى ... والنفسُ منه نفساً تخرجُ
وفي الهَدى ضد الهُدى مساكنٌ ... يوشك من يسلُكه يخرجُ
كتبت إلى المترجم: حالي بعد فراق أخي حالُ من فقد الروح، وأضحى منازع الجسم المطروح.
وشوقي شوق الظمآن، لماء الغُدران.
والساري في الظلام، لتبلُّج البدر التَّمام.
وأما حديث سفرتي التي أنكت، وأذكت حرَّ هجيرها فأبكت.
فمن حين ودَّعت، أودعت القلب ما أودعت.
لم تغلط بي راحةٌ إلا إلى الهَدى، ومنها بان عني الرشد وأخوه الهُدى.
فعلوت ذروةً أرتني نجوم السماء مظهرة، وهبطت نجوةً كشفت لي تخوم الأرض مظهرة.
فترجَّلت هيبة وذعرا، وسلكت مسلك ما رأيت مثله وعرا.
والرُّفقة كلٌّ منهم في واد، وبرؤيتهم قرناء احتاجوا إلى قوَّاد.
لكنَّ منهم من تاه وضلَّ، وأدركه الإعياء فسئم الحياة وملَّ.
ومنهم من أخذته الحيرة، واستولت عليه من أحلامه في كراه الظَّهيرة.
ومنهم، وهم الكثير، مؤتمون موجوعون، زمرتهم: " إن لله وإنا إليه راجعون ".
وأما أنا، فلو رأيتني وعصايَ لقوس قدِّي وتر، وقد جئت من كل نهزة للتَّهلكة على قدر.
وأيست من السَّلامة، وعدت على نفسي بالملامة.
رأيت شيخاً وقف على ثنيَّة الوداع، وسلَّم نفسه للحتف إمَّا بالطمأنينة أو بالخداع.
ولم يبق منِّي إلا نفسٌ خافت، وجسم من النصب هافت.
فما تخطَّت في التَّخطِّي لي قدم، إلا وأخطأت خطأ كلُّه ندم، وعثرت عثرةً غصَّانةً بدم.
حتى لطف الله تعالى بلطفه، وأولاني فريد رأفته وعطفه.
فرأيت المحطَّة وأحسبني بها حالما، وما تحقَّقت البقاء، علم الله، حتى وصلتها سالما.
فقعدت أنفض غبار الموت، وأتفقد قواي فأرى قد فات فيها الفوت.
سوى بقيةٍ لم أعدم بها فضل الأقوات، وأحسب لأجلها من أحياء الأموات.
فلم يستقر قرارنا حتى شدُّوا من ذلك المكان، فانْحلَّ من عقد عزمي ما كان في حيِّز الإمكان.
ثم رحَّلنا العِيس، على ذلك الرأي التَّعيس.
وسرنا إلى أن وصلنا إلى شداد، ونحن نطلب من الله تعالى أن يمدَّنا منه بأمداد.
فما نزلْنا حتَّى ركِبنا ... والحالُ باقٍ وفيه شدَّهْ
فوقفت ممتثلاً، وأنشدت قولي متمثِّلا:
شدُّوا فحلُّوا فؤادِي ... وكثرةُ الشَّدِّ تُرخِي
فنزلنا بعد ربع الليل عرفة، ورأى كلٌّ منا صاحبه وعرفه.
فوقفنا، وما توقَّفنا.
إلى أن هيَّأوا لنا مراحا، وما تقيَّدوا به إلا وهم يبغون سراحا.
فجلسنا بعضنا شاكٍ فقد أحبابه، والبعض الآخر شاكٍ من الحجارة وما أصابه.
وأنا بينهم ساكتٌ ألفا، وناطقٌ خلفا.
كيف وقد خلَّفت ما يورث الهذيان، وتأبى مواقعه أن يحوم حوله النِّسيان.
ثمَّ انْكفأنا انْكفاء الحَيا، ولسان الحال يقول: لا سقياً ليومنا ولا رعيا.
فما راعنا إلا المُكاري وحزبه ينادون: هيَّا فاركبوا، طلع الفجر.
فأبعدوا المدَى، وأزعجوا الصَّدى.
فنهضت من مرقدي نهضةً جفلة، وما أحسبني تنبَّهت من غفلة.
وركبت الليل البهيم، والشَّوق إلى الرقاد شوق الهيم.
وما برحنا في برحٍ وعنا، حتَّى وصلنا مع الشروق إلى مِنى.
فقلت لرفيقٍ لي انتخبته، ولمثل هذا الأمر انتجبته: هلمَّ فلنسترح ونرح، ونقيل في هذا المكان المنشرح.
فقلت وقال، وأقلت عثرة الدهر وأقال.
واطمأنَّ بنا الجلوس حصَّة، وأرحنا بها مضَّة وأزحنا غُصَّة.
وأخذنا جانباً من النوم، إلى أن نصَّفنا ذلك اليوم.