ثم رحل في شبابه واغترب، ونقَّب في الحجاز واليمن للتَّحصيل واضطرب.
حتى استقرَّ بالحرم المكِّي فامتزج بقطانه، واشتغل بذخائر فضائلهم عن أهله وأوطانه.
وله عندهم منزلة به تليق، ومرتبة هو بها خليق.
وقد جمع تاريخاً سال فيه من طبعه معينه، وطلعت في قصور طروسِه أبكاره وعينه.
وكنت سمعت به ولم أظفر منه بالعيان، فلمَّا رأيته اتَّضح لي في حينه صدق البيان.
ورأيت جمعاً يجمع من دبَّ ودرج، حتى يقول من رآه: حدِّث عن البحر ولا حرج.
ما شِيت من ترتيب غريب، وتطريب من بنان أريب.
إلى جزالة مشربة بحلاوة، وسهولة متدفِّقة بطلاوة.
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل، ونفسه فيه طويل إلا أنه لا يخلو من طائل.
وهو بسبب سعة اطِّلاعه، وشدة قيامه بالطريقة واضطلاعه.
لا يقتصر على ما ينبغي، ولا يمنع من الذكر المبتغي.
وبالجملة، فشكر الله عليه سعيه، وتولَّى بعض عناية حراسته ورعيه.
وكان أوقفني على مجاميع بخطِّه، فاقتطفت منها ما حلا وطاب، وملأت من بدائع ذخائرها النَّفسية الوِطاب.
فمما تناولته من شعره، قوله:
حدِّثا عن صبابَتي واصْطِبارِي ... وارْوِيا لوعَتي العذارِ
وخذا عنِّي الهوى فحديثي ... صحَّ فيه وسُلْسِلتْ أخباري
يا رفيقيَّ من زمان التَّصابي ... والتَّصابي مَظِنَّةُ الادِّكارِ
علِّلاني بالخَنْدريس لَعَلِّي ... أرشُق القلبَ بارْتشاف العُقارِ
واسْقِياني وروِّحاني برَوْحٍ ... كالعقيق المُذابِ وَسْط النُّضارِ
من يَدَيْ شادنٍ بنفسي أفْدي ... هِ مليحاً خلعتُ فيه عِذارِي
مائِسِ القدِّ أحمرِ الخدِّ أحْوى ... كاملِ الحسنِ أهيَفٍ مِعطارِ
إن تبدَّى في ظلمةِ الليل أبْدَى ... من سَناه لنا ضياءَ النَّهارِ
وإذا مارَنا بطرفٍ خفِيٍّ ... سلبتْ مُقلتاه منِّي قَرارِي
وإذا زارَني على غيرِ وعدٍ ... عبقتْ ريحُه إلى كلِّ دارِ
كم أُدارِي العَذولَ والوجدُ قاضٍ ... بافْتِضاحِي في حُبِّه واشْتِهارِي
ساحِرِي باللِّحاظِ ماذا عليه ... لو يُوافِي مُضْناه في الأسْحارِ
وكتبت إليه وقد توجَّه إلى الطائف، وتخلفت أنا بمكة:
ليس عندِي ما أرْتَجِي من زَمانِي ... غيرَ لُقياك يا أجلَّ الأمانِي
فعلى كل حالةٍ أنت قصدِي ... ومُنايَ وأنت نورُ عَيانِي
ى أرى العمرَ بعد بُعدِك إلا ... حَسَراتٍ قد أرْدفتْ أحزانِي
غيرَ أنِّي أعلِّل القلبَ والفكْ ... رَ بذكْرِي ثَناك في كلِّ آنِ
لا لأنِّي أنْساك أُكثِر ذكْرا ... كَ ولكن بذاك يجرِي لِسانِي
ثم دعاني الشوق إلى ذلك الوادي البهيج، والمتنزَّه الذي يأخذ على البصر بمنظره الرَّهيج.
فشمَّرت لقصده عن ساق الهمَّة، وجعلت رؤيته عندي من الأمور المهمَّة.
فخرجت من مكة وطرفي من الدمع بالقذى ملآن، إلا أني أذكر مياه ذلك الوادي فلا أبيتُ إلا بغُلَّة ظمآن.
وكان عرض لي في الطريق نفرةٌ من لصٍّ طائف، فكدت أن أصير أتْيَهَ من فقيد ثقيف بالطائف.
ثم سلَّم الله فحللت بطنَ وَجّ، ونزلت بوادٍ تزوره السَّرَّاء من كل فَجّ.
وكان مُناخي بالسَّلامة أجمل مواضعه وأبهاها، وأحبِّها إلى النفوس وأشهاها.
لإحلاله محلَّ النور من الإنسان، وإشرافه على فضاء يبعد فيه النَّظر إذا وقف للاستحسان.
ما بين غصون مُلتفَّة، ومياهٍ بجدرانه مُحتفَّة.
ونادٍ يفوح أرجُه، ووادٍ يلوح منعرجُه.
أتيتُه من بعد ما كاد الرَّدى ... يوردني مواردَ النَّدامهْ
فالحمدُ لله على رؤيتهِ ... والحمدُ لله على السلامهْ
ولقيت به المترجم وقد وطَّأ فيه للرفاهية مضجعاً، ومهَّد للعيش النَّضر مهجعاً.
وثمَّة جماعة من الأودَّاء أكسبهم الله محبة كل فؤاد، وزرع لهم المودة في ملأٍ به ألف واد.
فانحزت في غمارهم، وتمتعت حيناً بتحف أسمارهم.