للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحشوهما ذباب يبرح ويسنح، وبعدم مبالاة خلطائه لا يهفُّ للبراح ولا يجنح.

وبرغوثٌ كنقطة دغل، أو سويداء دخل.

يدرك بطعنٍ مؤلم، ويستحلُّ دم كلِّ مسلم.

وبعوضٌ يطيل الألم، ولا يفنى حتى يرتوي من شرب دم.

وبقٌّ خارجٌ عما يعهد، يلحُّ في الوصول إلى العظم ويجهد.

ووراء ذلك ضجيج، ولا ضجيج الحجيج.

وزحام يبلَى به الشخص من السَّحر في الطريق، حتى يقول: ما هذه القيامة على الرِّيق.

وأمَّا حديث قلَّة الأدب فمن هنا يُؤثر، والأقلُّ منهم تابعٌ للأكثر.

وكيف يُرجى منهم حجاب، ومكان الحياء منهم خراب.

إلى غير ذلك من قبائح تركتُها حذراً من تلويث الكتاب، وفضائح لا يُلبس عليها ثياب.

هذا وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ولا يعرف قدر نعمته إلا من عالج بلواه.

فلولا العلَّة لم تحمد الصحة، ولولا التَّرحة لم تطلب الفرحة.

فأنا فارقتُ الجنة تعلمة آدم أبي، واستبدلتُ نقيضها بطرفٍ نافرٍ وقلبٍ أبي.

وخضتُ غمار المهالك والرَّدى، ونظرتُ إلى الآخرة وأنا في الدنيا.

وتعوَّضتُ عن تلك الوجوه بهذه الوجوه، واختلفتْ حالي فأنا متناقض معهم في كل ما أرجوه.

فما أشبهني بكحلٍ في عين أعمى، ومصباحٍ عند أكمَه، ونغمةِ عودٍ عند أصمّ، وخاتمٍ في أُصبع أشلّ.

ودرَّةٍ في رأس قروي، وسُبحةٍ في يد بدوي.

وسيفٍ في قبضة جبان، ومصراع تضمين في شعر ابن غزلان، أو أبي الغزلان.

وإنِّي إلى مواضع إيناسي، ومراتع غزلان صريمي وكِناسي.

أحنُّ من حمامةٍ لفرخْ، وأورى شوقاً من عفار ومرخْ.

وأنا مقدم على أدوات التوسُّل، متوسِّل بصاحب الشفاعة في التَّوصُّل.

فعسى أرى وقت التَّلفُّت، ولا علِقتْ لي بعدها لحظةٌ بالتلفُّت.

وإن نبذوا بعدي الحَصاة، فلا أب لهم إن لم يكنِسوا العَرَصات.

فإن عمدوا إلى أن يوقِدوا في أثري النَّار، فليسرعوا إلى أن يثيروا في قفاي الغبار.

وضَراعتي إلى السميعِ المُجيب، أن يجعل ذلك أقرب من كلِّ قريب.

والسلام.

محي الدين السلطي شيخ الصَّنعة ووليدُها، والمتوفِّر له طريفها من الفنون وتليدها.

وابن بَجْدَتها في القريض، وأخو جملتها في النفس الطويل العريض، وأبو عذرتها في التَّصريح بالأغراض والتَّعريض.

رأس بالاستحقاق الآن، وسهَّل طرق الفنون وألان.

وهو شاعر لا يطمح في لحاقه مجاريه، ولا يُحثى التُّراب إلا في وجه مُباريه.

وقد ناهز الثمانين، وسما على العرانين.

فلو رآه ابن سبعين لما تجاوز حدَّه، أو الثمانين لاستنجد بهمَّة جدِّه.

وهو أعصف القوم ريحا، وأكثرهم عن البيان تصريحا.

قلبه قليبٌ واسع، وغوره بعيدٌ شاسع.

لا يقرطِس غرضاً إلا أصماه، ولا يفوِّق سهماً إلا أصاب مرماه.

وقد صحِبته مدةً فتمتَّعت بآدابه، ورأيت التحوُّل في كلِّ فنٍّ من دابه.

وتناولت من أشعاره تحفاً بادية الإغراب، وطُرفاً أترابها في اتِّفاق الصنعة تحت التراب.

فدونك منها ما لا يحتاج حسنه إلى إثبات، كالدُّرِّ يكفيه من حسنه نحورٌ ولبَّات.

فمن ذلك قوله من مقصورة، مستهلَّها:

قوامُه واللَّحظُ منه يُفتَنى ... مُمَنَّعٌ بين الرِّماح والظُّبَى

من جفنة كسرى استبيح اسمه ... وللنجاشي الحكم في الخال مضى

في حرَكاتِ قدِّه يستحسن الضَّ ... مُّ ومن أجفانِهِ الكسر ارتوى

وثغرُه قالوا العُذَيْبُ قلتُ من ... ذاكَ يُشامُ البرقُ منه أوْمَضَا

منها:

من لم يذُقْ حُلوَ الهوى ومُرهُ ... لم يدرِ ما بين الضَّلالِ والهُدَى

يا صاحِ أعْنى غيرَ صاحٍ من هوًى ... إن جُزتَ سلعاً منه سلْ عن ذي نَبَا

أخَيَّم الأحبابُ أم قد ظعَنوا ... فهاكَ آثارُ المَطِيِّ في طَوَى

وكنت طلبت منه شيئاً من أشعاره، لأثبته في كتابي هذا، فوعد وسوَّف.

فكتبت إليه:

أمولايَ مُحيِي رسومَ الأدبْ ... ومن حاز فيه أجَلَّ الرُّتبْ

لكَ اللهُ من مُبدِعٍ في الصنِيعِ ... إذا فاه يَمجبُ منه العجَبْ

فشِعرُك تطرب منه المُدامُ ... ونثرُك يرقُص منه الحبَبْ

وأنت الحياةُ لجسمِ العُلى ... وللفضلِ رونقُهُ المكتسَبْ

<<  <  ج: ص:  >  >>