فاسبِلْ عليها من جمي ... لِ السترِ أرديةً نقِيَّهْ
لا زلتَ ممدوحَ الصَّفا ... تِ الغُرِّ محمودَ السَّجِيَّهْ
ما غرَّدتْ وُرْقُ الحما ... ئِمِ في الرِّياضِ السندسيَّهْ
ولما وردت عليَّ وكنت مقيماً ببولاق، وأنا حليف أخلاقٍ أخلاق.
وذلك لفقد الأنيس، حتى اليعافيرُ والعِيس.
لا أرى ردِيفاً إلا من القافية، ولا أطلبُ صديقاً إلا من العافية.
ولا ذقتُ إلا ماءَ عيني مشربا، ولا نِلتُ إلا لحمَ كفِّي مطعَما.
وقد عرفتُ شأني وزماني، وخلعتُ من عنقي رِبْقةَ الأماني.
لا تزعجني المهمَّة، إلى استعمال الهمَّة، وأنا ناظرٌ إلى نفسي بالذنبِ والتُّهمة.
فقد اجترمتُ الخطايا، وركبتُ الأجرامَ رواحِلَ ومطايا.
وفارقتُ العيون الصِّحاح، والألفاظَ الفِصاح.
والرِّياضَ النَّواسِم، والثغورَ البواسِم.
والمواطن التي عرفتُ بافتراع الأحاسنِ ناسَها، وألقيتُ بها أزِمَّةَ الآداب تروق أنواعها وأجناسَها.
فكتبت إليه وضرورتي مشروحة، ودعوى التَّحامُل عن كتفي مطروحة.
وأستوهب الله رحمةً تجعل عِناني في يد التوفيق، وتصرِف عَياني عن هذه الوحدة إلى الفريق الرَّفيق.
وصل كتابك فاتَّفقتِ القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنةُ في تمثيله.
فمِن مدَّعٍ أنه رُقْيةُ الوصل، وريقة النحل.
ومنتحلٍ أنه دُرَّةُ النَّحر، ولؤلؤةُ البحر.
وقائلٍ هو السُّكَّرُ المعقود، وسلافُ العنقود.
فأمَّا أنا فتركت التشبيه، وقلت ماله مقيل ولا شبيه.
بَنَتِ البلاغةُ سماءَ بيانه، وحُشر الحسن بين قلم منشيه وبنانِه.
فعين الله على هذه الألفاظ الغر، التي يحسدها على اتساقها الياقوت والدُّر.
وقد عرفتني من خبر سلامتك ما رجوت له الدوام، ودعوت له بالحفظ من حوادث الأيام.
وكان سرى خيالك فشوَّق، واستطار برقك فأرَّق.
فأجفان الإخلاص ناظرةٌ إليك، ويد القبول مسلِّمةٌ عليك.
وأما القصيدة التي هي دُرَّة التقاصير، وربيبة تلك المقاصير.
فقد وردت مؤكدة لك المحبَّة في القلوب، والرغبة في الودِّ المطلوب.
وفطنت بتلك النِّيَّة، وما أظنُّها كانت عن رَوِيَّة.
فهي كدعوة السائل، إنَّما تجري لتأكيد الوسائل.
كيف ومحلُّها منطَمِسٌ بغبار الأغيار، وحق لمن رأى غُبار بولاق أن يشكو صدأَ الأكدار.
ولعل السيِّد نظر إلى بيت العيون والرَّميَّة، فعلم أن النفس من مخالستِها أبِيَّة.
فلو قاصراتُ الطرفِ أقبلْنَ كالمهَا ... وقَبَّلْنَ رأسِي ما قبلتُ مَزارَها
نعم القلوب بعيون الشام علق، إلى أن يصير إلى ما منه خُلق.
فأما وحَدَقِها المراض، وسهامِها التي تتمنَّاها الأغراض.
ورُنوِّها ولو لحظةً فإن لها حقَّا، وتلَفُّتِها ولو غلطةً فإنِّي عبدُها رقَّا.
إني مذ ودَّعتُ بها حلاوةُ الرِّضا، ودَّعتُ العيشَ المُرتضى، وبتُّ على جمرِ الغضا، وحدِّ السيف المُنتضى.
وأنا الآن بحكم الزمان، مستودعٌ دار الهوان.
أضحك للبؤس، وأبَشُّ للوجه العبوس.
وأتصفَّح وجوهاً لا أرجوها، وأريد أمدحُها والمروءة تهجوها.
أكثرهم شيخٌ يتفتَّى، ويبرز في أطوارٍ شتَّى.
يأكل ما تأكل الناس، ويخالفهم في المشرب واللِّباس.
له وجهٌ لا يشِف، وعينٌ لا ترِف.
إذا تكلَّم، كَلَم، وإذا بَشَّ، أدهش وأوحش.
كلامه في الرِّضا، مثلُ هزَّات الفضا.
خلق الله ذاته عبرةً للنَّوائب.
وثمَّ من رُّزِق فلتةً، ورُمِق بغتة.
عمر غناه قصير، وهو بطريق اللُّؤمِ بصير.
فإذا رأيت رثاثة حاله ونعمته لديه، يوشك أن تدَّعي غضب الله عليها وعليه.
وقد مقتُّ به الأيام وتصاريفها، وسئمت الحياة وتكاليفها.
ولو جهلت أن الحِذق، لا يزيد الرِّزق.
لعذرت نفسي في الرحل أشدُّه، والحبل أمدُّه.
ولكني أعلم هذا وأعمل ضدَّه، وأسير سيراً ينكِر المرء فيه جهده.
وإلا فمن أخذني بالمطار، في هذه الأقطار.
حتى تركني أنازل المحن، وأعتب هذا الزَّمن.
وأقول: قد بليت فيه، بأيَّامٍ كأيَّام رمضان وليالٍ كلياليه.
تلك كظلِّ الرُّمح، وهذه تهويمة الصُّبح.
وكلاهما تارةً بنار الجحيم يلتهِب، وآونةً بفيحِه للحارِّ الغريزي ينتهِب.
قد أخلاَّ بالعادة، وجاوزا المألوف بزيادة.