لم تُرْو في التَّواريخ كأحاديثه الحِسان، ولم تسطَّر كآثاره في صحائف الأزمان بالحسن والإحسان.
وله شعر كقدره ثمين، إلا أنه كالياسمين.
فيُكتب لشَرفه، لا لكثرة طُرفِه.
فمن ذلك هذه الزَّائيَّة، عارض بها قطب مكَّة الذي عليه المَدار، وقمر أُفقها الذي يأبى غيرَ الإبدار.
وقصيدته هي هذه:
سبحان من للوجودِ أبرَزْ ... رَشاً بحُكم الهوى تعزَّزْ
زادَ على الرِّيمِ في دلالٍ ... وعن جميع المهَا تميَّزْ
أحْوى وللظَّرفِ ليس منه ... أحْوى ولا للبَهاءِ أحوَزْ
لقد كساهُ الجمالُ ثوباً ... بألطف اللطفِ قد تطرَّزْ
رنَا بِطرفٍ جآذِرِيٍّ ... كأنه للوصال ألغَزْ
وَعداً ولكن بلا نهارٍ ... يا حبَّذا الوعدُ لو تنجَّزْ
بعثتُ باثنينِ من خُضُوعِي ... وثالثٍ بعد ذَيْنِ عَزَّزْ
أرجو وِصالاً منه بِعِزٍّ ... من عَزَّ من وصلِه فقد بَزّ
فما رثَى لي ولا وفَا لي ... وقد قسَا قلبُه ولزَّزْ
وعَفَّ إلا عن قتلِ مثلِي ... فإنَّه عنه ما تحرَّزْ
قوله: من عَزَّ بَزَّ. مثل، معناه: من غلب سلب.
قال المفضَّل: أول من قال ذلك رجلٌ من طي، يقال له: جابر بن رألان، أحد بني ثُعل.
وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له؛ حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يومٌ يركب فيه، فلا يلْقى أحداً إلا قتله، فلقَى في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه، فأخذتهم الخيل بالثوَيَّة، فأُتِيَ بهم المنذر، فقال: اقترعوا، فأيُّكم قرع خلَّيتُ سبيله، وقتلتُ الباقين.
فاقترعوا، فقرعهم جابر بن رألان. فخلَّى سبيله، وقتل صاحبيه.
فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: من عَزَّ بَزَّ. فأرسلها مثلاً.
وقصيدة القطب مطلعها:
أقْبل كالغصنِ حين يهْتزّ ... في حُللٍ دون لُطفها الْخزّ
وهي مذكورة في الريحانة.
وذكر الشهاب معها قصيدةً له عارضها بها، ومطلعها:
من علَّم الغصنَ حين يهْتزّ ... ميلَ قُدودٍ تميلُ في الخَزّ
وللنَّجم:
أخوكَ في الإسلامِ يُجديك في ... علمٍ ورأيٍ منه أو أنْسِ
كأن قد احْتجْتَ إلى نفعِه ... وإذ به قد صار في الرَّمْسِ
أصْبحتَ أسَّافاً على صاحبٍ ... قد كنتَ تأسَى منه بالأمْسِ
ما أحوجَ المرءَ إلى خِلِّه ... وأحوجَ الجنسَ إلى الجنْسِ
ويلاه من عصرٍ رأينا به ... على افتقادِ الكُمَّلِ الخمْسِ
لسنا نرى ممَّن مضَى واحداً ... ولو بلغْنا مطلَعَ الشمْسِ
هذا معنًى موجود في الأثر، وذلك ما أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن سليمان بن موسى الأشدق، قال: أخوك في الإسلام إن استشرته في دينك وجدت عنده علما، وإن استشرته في دنياك وجدتَ عنده رأياً، ما لك وله، وإن فارقك فلم تجد منه خلَفَا.
وسليمان هذا كان من أكابر السَّلف.
قال الزُّهري: إن مكحولاً يأتينا، وسليمان بن موسى - يعني لسماع الحديث - وأيمُ الله إن سليمان لأحفظُ الرجُلين. أخرجه في الحلية أيضاً.
ومن هذا ما نقله الشعراوي في طبقاته عن أبي المواهب الشَّاذلي، أنه كان يقول: أهل الخصوصية مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسَّف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم.
وقد قيل في المعنى:
ترى الفتى يُنكِر فضلَ الفتى ... ما دامَ حيًّا فإذا ما ذهبْ
لَجَّ به الحِرصُ على نُكتةٍ ... يكتُبها عنه بماء الذهبْ
ومن مقاطيعه قوله:
تواضَعْ تكُنْ كالنجم لاح لناظرٍ ... على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تكُ كالدُّخَّانِ يعلو بنفسِه ... إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ
وقوله:
لا تكرَهنَّ حسوداً ... يُجديك نشرَ الفضيلهْ
كم من حسودٍ مُفيدٍ ... ما لم تَفِدهُ الفضيلهْ
ومثله لوالده البدر:
الحمدُ للهِ على فضلِهِ ... إذ صيَّرَ الحاسدَ لي يخْدِمُ