علمتُ أن العيونَ السُّودَ قاتلتِي ... وأنَّ عاشِقها لا زال مقْتولا
وقد تعشَّقْتها طفلاً على خطَاءٍ ... لِيقضيَ اللهُ أمراً كان مفْعولا
فكأن هذا الحبيب طلب هذا المحب لمجلس قاضي الهوى، وديوان أهلِ الجوَى.
وادَّعى عليه، وأحضر حجَّته وشاهديه.
وقرَّر في دعواه، بحضرة هذا الصَّبِّ الذي يهواه.
أنه قد وقع في إقدامه لمحبَّتي على خطأٍ لا صواب، كيف لا وهو لا يذوق الأرْيَ إلا بعد الشَّبع من الصَّاب.
ولا يمكنه القرب إلا بعد البعد الطويل، ولا الوصل إلا بعد فراقِه لكلِّ خليل.
وهذا خطبٌ جليل، صاحبه إن لم يمت فهو أبداً عليل.
يكابد الأشجان في الليل والنهار، وبعد ذلك إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نار.
وقلَّ محبٌ يحصل على حبيبه إلا بعد هذه الأهوال، وإنفاق الرُّوح فضلاً عن الأموال.
فلا يكن العارف كالرافض، لما قال ابن الفارض:
هو الحبُّ فاسْلم بالحشَا ما الهوى سهلُ ... فما اخْتاره مُضْنًى به وله عقلُ
وعِشْ خالِياً فالحبُّ راحتُه عَناً ... فأوَّله سُقْمٌ وآخرهُ قتْلُ
هذا كلام سلطان العشاق، المقطوع بمعرفته المحبَّة على الإطلاق.
فعند ذلك نظر القاضي لهذا العاشق ولاطفه خِطابا، وسأل سؤاله فلم يُحرِ جوابا.
فكان كما قيل، في حقِّ العاشق الذليل:
وكم من حديثٍ قد خبأناه لِلِّقا ... فلما التقيْنا صِرتُ أبكَمَ أخرسَا
فلما أراد القاضي الحكم عليه، بما أبدى لديه.
قال ربُّ الجمال في الحال، الغيرِ حالّ: وهاك أيها القاضي شاهدين، عدلينْ.
مبعدين للرِّيَبِ، مقرِّبين للأرَب.
وأبدى من سحر العيون، ما يهتك السِّرَّ المَصون:
عيونٌ عن السحرِ المُبين تُبينُ ... لها عند تحريكِ الجفونِ سكونُ
إذا أبصرتْ قلباً خلِيًّا عن الهوَى ... تقولُ له كُنْ عاشِقاً فيكونُ
ثم قال: حكمتُ بهذه الحجج، التي ليس لك منها فرَج.
فعند ذلك قال المحب، وقد اشتعل ناراً: أيها القاضي: " الخط زور والشهود سُكارى " فكان هذا الجرح عين التَّعديل، وتقويةً للدَّليل.
إذا ثبت هذا فلا شك ولا ريب أن العاقل لا يرمي بنفسه في هذه المهاوي، وإن رمى فهو قطعاً لا شكَّ هاوِي.
وكيف يخاصم من بعضه لبعضه شاهد، وبعضه حجَّةٌ تقطع كلَّ خصمٍ معاند.
فهذا خطأٌ لا صواب، عند أولي الألباب.
فإن قيل: كيف يصحُّ أن يشهد البعض على البعض؟.
قلت: هذا له نظيرٌ بما سيقع يوم العرض.
كما أخبر رب العالمين، في كتابه المبين. وهو قوله تعالى: " يوم تشهدُ عليهم ألسِنتُهُمْ وأيديهِم وأرجُلُهُم ".
إلى أنه فرَّق ما بين الدَّارين، لعظم أحد الهولين.
وهذا لا يخفى على الفطن العارف الحاذِق، الذي هو لطعم المعارف ذائِق.
وقد جاء ذلك كثيراً في أشعارهم، وقُرِّر في قصصهم وأخبارهم.
كما قال أبو حفص المُطَّوِّعي، من شعراء اليتيمة:
أيا منيةَ المشتاقِ فيم تركتَنِي ... كَئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عَقْلِ
فإن كنتَ أنْكرتَ الذي بي من الهوَى ... أقمْتُ به من أدمُعي شاهدَِيْ عَدْلِ
وقال الآخر:
وعندي شهودٌ للصَّبابةِ والأسَى ... يُزكُّون دعوايَ إذا جئتُ أدَّعِي
سقامِي وتسْهيدِي وشوقِي وأنَّتِي ... ووجدي وأشْجاني وحُزني وأدمُعِي
وقال آخر:
إن كنتَ تُنكِر حالي في الغرامِ وما ... ألْقى وأنِّيَ في دعوايَ متَّهَمُ
فالليلُ والوَيلُ والتَّسهيدُ يشهدُ لي ... والحزنُ والدمعُ والأشواقُ والسَّقمُ
فإن قيل: لم اختصَّ البعض بالعينين، ولم يأتِ باليدين والرِّجلين؟ قلنا: خَصَّ العينين؛ لما فيهما من الحسن الزائد، وكثرة الفوائد.
لأن أحسن ما في الإنسان وجهه الجامع لجميع المنافع، وأحسن ما فيه العينان من غير منازع. قال:
وأحسنُ ما في الوجوهِ العيونُ ... وأشبهُ شيءٍ بها النَّرجِسُ
فكانا ألْيَقَ بالمقام، عند الخاصِّ والعام.
فإن قلتَ: لم خصَّ الحِجَّة بالعِذار، الشَّبيه بالليل الماحي لضياء النهار؟ والحجة يطلب فيها الانارة والظهور لا الظلام ولا الستور