للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" إنَّ من البيان سحراً، وإنَّ من الشِّعر حكمةً ".

هذا، وقد أخذ رائق كلامكم، وفائق نظامكم.

بهذا الصبِّ أخذ الأحباب الأرواح، ولعب به ولا كالتعاب الرَّاح.

كيف لا، وقد كسيَ حلل البهاء والجمال، وانتظم ولا كانتظام اللآل.

رقَّ فاسترقَّ الأحرار، وحليَ فتحلَّى به أهل الشِّعار.

وراق معناه، فأشرق مغناه.

وحسن مساقه، فحلا مذاقه.

وفاح أرج القرنفل من رياضه، وهبَّت نسمات الجنان من غياضه.

فلله درُّك ودرُّ ما ألغزت، وما أحسن ما بعَّدت وقرَّبت، فقد أبدعت فأعبدت، وأغربت فأرغبت. لغز كالغزل، في نشر طيِّه حلل.

من طوَّل في مدحه فقد قصَّر، وما عسى أن يمدح البحر والجوهر.

ولكن نعتذر إليكم من هذه الشَّقشقات التي أوردناها على سبيل البديه، وكلٌّ ينفق مما عنده ويبديه.

وحين ملت طرباً من ميل تلك اللامات، قلت هذه الأبيات:

أتاني نظامٌ منك يُزري بحسنِه ... قفا نبكِ من ذكرَ حبيبٍ ومنزلِ

وأشْممني منه أريجاً كأنه ... نسيمُ الصَّبا جاءت بريَّا القرنفُلِ

فيا واحدَ الدنيا وليس مُدافعٌ ... ويا من غدا مدحي له مع تغزُّلي

بعثتَ لنا عقداً ثميناً فلو رأى ... جواهره النَّظَّامُ ولَّى بمعزلِ

ولو أن رآه امرؤُ القيسِ لم يقُل ... ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انْجلِي

فمن يكُ نظَّاماً فمثلُك فليكُنْ ... فصاحة ألفاظٍ بمعنًى مكمَّلِ

رقيقٌ لطيفٌ رائقٌ متحبِّبٌ ... إلى كلِّ نفسٍ وهو في العينِ كالحِلِي

يفوحُ عبير المسكِ من طيِّ نشرِه ... فكيف وقدْ ألْغزتهُ في القرَنْفلِ

فلا زِلت تَحبونا بكلِّ فضيلةٍ ... ولا زلتَ تُحيينا بعلمٍ مفضَّلِ

ولا زلتَ للدنيا إماماً وسيِّداً ... وعلمكَ يُروى للحديثِ المسلسَلِ

وله، جواباً عن سؤالٍ دفع إليه في تحقيق معنى البيتين المشهورين، وهما:

عيناه قد شهدَتْ بأنِّي مُخطئٌ ... وأتتْ بخطِّ عِذارِه تذكارَا

يا حاكِم الحبِّ اتَّئدْ في قتلتِي ... فالخطُّ زورٌ والشُهودُ سُكارَى

تأملت البيتين المشتملين، على خط العِذار وشهادة المقلتين. فلم يظهر لي في الخطأ صواب، وقد بذلت طاقتي فلم يفتح لي الباب.

ولم أسمع من الأشياخ الثقاة الأحبار، ولا من الشبان والرواة للأخبار.

من نقد هذا النقد، الذي هو أحلى من القند.

فتحقَّقت أن مبديه من أولي الألباب، القادرين على الإتيان بكل عجب عجاب.

وأن فكرته تتَّقد كالزُّهر في الدجى، فتوضَّح السبل لأهل الحِجا.

وأنه المتصرف في الدقائق كيف شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء:

يا من كساهُ الله أردِية العُلى ... وحباه عطرَ ثنائِها المتضوِّعِ

وإذا نظرتُ إلى محاسِنِ وجهِه ال ... مسعودِ قلتُ لمقلتِي فيها ارْتعِي

وإذا قرينَ الأذنَ شهدُ كلامِهِ ... قلتُ اسمعِي وتمتَّعي وارْعي وعِي

وكأنَّما يُوحَى إلى خطراتِهِ ... في مطلعٍ أو مخلصٍ أو مقطَعِ

لك في المحاسنِ معجزاتٌ جمَّةٌ ... أبداً لغيرِك في الورَى لم تُجمعِ

بحران بحرٌ من البلاغةِ شابه ... شعرُ الوليدِ وحسنُ لفظ الأصمعِي

شكراً فكم من فقرةٍ لك كالغِنَى ... وافَى الكريمَ بعيد فقرٍ مدقِعِ

وإذا تفتَّق نور شِعركَ ناضِراً ... فالحُسنُ بين مرصَّعٍ ومصرَّعِ

أرْجلتَ فرسانَ قلبي ورُضْتَ فر ... سان البديعِ وأنت أفْرسُ مُبدِعِ

ونقشْتَ في فَصِّي الزمانِ بدائِعاً ... تُزري بآثارِ الرَّبيعِ المُمْرِعِ

وحويْتَ ما تُكْنى به طرًّا فلم ... تترُكْ لغيرك فيه بعضَ المَطْمَعِ

غير أن هذا العبد بعد البعد عن المقام، ألمَّ به بعض إلمام.

وهو أنَّ خطأ هذا المحب إذ قاد نفسه لحتفِه في هوى هذا الحبيب البعيد المنال، القريب الوَبال، بحُسن الدلال، كما قال من قال، وأحسن في المقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>