إلى أن رمتْنا بعد عالِي مكانِنا ... على مُغْرٍ فيها المُقامُ غرورُ
وجئْنا حِمانا مطمئِنِّين أنفساً ... على أن مرقى المكرُمات عسيرُ
ودخل على شيخنا إبراهيم الخياري المدني، حين قدم الشام زائراً، أثر انقطاعٍ ربَّما أوجب تهاجرا.
فقابله معتذراً، وأنشده معنًى مبتكراً. وهو:
وما عاقنِي عن لثمِ أذيالِ فضلِكُم ... سوى أنَّ عيني مذْ فارقتُكم رمَدَا
فعاتبتُها حتَّى كأنِّي حبيبُها ... فأبدتْ كلاماً كانَ قلبي له غِمدَا
وقالتْ لقد كحَّلتُ طرفِي بظرفِهِ ... فأفْتحُها سهواً وأُغمضُها عمدَا
فخاطبه الخياري بقوله:
أيا فاضِلا أبدَى لنَا في نِظامِهِ ... لطيفَ اعتِذارٍ سكَّنَ الشوقَ والوجدَا
وأشفَى بِلُقياه مريضَ بِعادِهِ ... وقدْ كانَ أشفَى للبِعادِ وما أودَى
فصان إلهُ العرشِ مُقلتهُ التي ... ترَى كلَّ معنًى دقَّ عن فهمِها جِدَا
لئنْ كُحِّلتْ بالظرفِ قد أسكرت بِما ... أدارتْهُ من مقلوبِ أحداقِها شُهْدَا
فإن ترَنِي أشتاقُ خمرةَ قرقَفٍ ... فأطلبُها سهْواً وأترُكُها عمدَا
عبد القادر بن عبد الهادي العُمري ممَّن سابق في ميدان البراعة حتى أحرز مداها، ودأب في تحصيل المعارف إلى أن وجد على نار فكرته هُداها.
فإذا قدح بالظَّنِّ أثقب، وإذا ولَّد بالرجاء أنجب.
يعرف النِّقاية فينتقيها، ولا يمرُّ بالنُّفاية التي ينتفيها.
ويطالع ما وراء العواقب، بمرايا من التجارب الثَّواقب.
فلا تبيت فكرته بهم مرتبطةً، حتى تصبح بحلِّ عقدتها مغتبطة.
مع إحاطة بأنواع من الفنون، لا تحوم حولها الأوهام والظُّنون.
وتآليفه ألَّفت بين التَّناسق والتَّوافق، وجمعت حسن التَّطابق والتَّوافق.
وله من الشعر ما ينيل المطلوب، ويمتزج لطفه مع أجزاء القلوب.
وهو أحد أشياخي الذين قلبي بودهم معتلق، ولسان ثنائي بفضلهم منطلق.
تروَّيت حيناً بمائه، واستمطرت الوبل من جانب سمائه.
وكان أنشدني كثيراً من أشعاره الحسان، أنسيتها منذ زمان، وقبَّح الله النِّسيان.
ثمَّ ظفرت له بأشياء اقتطفت أناسيَّ عيونها، وجئت بمحاسن أبكارها وعونها.
فمنها قوله من قصيدة:
خطرتْ تميسُ كخطوطِ بانٍ مُزهرِ ... لا الشمسُ منها والبدورُ بأنورِ
عربيَّةُ الألفاظِ أعربَ لفظُها ... عن سحر موردها وطيبِ المصدرِ
هي كاسُ خمرٍ للعقول يديرها ... كفُّ البلاغةِ في خلالِ الأسطرِ
وجرَتْ من الأسماع جرْيَ مدامةٍ ... مُزجت برائقِ ريقِ ظبيٍ أحورِ
وتكادُ من فرطِ البلاغةِ قد تلتْ ... في سورةِ الإخلاصِ ذكرَ الكوثرِ
واللفظُ يُنبئنا وحسنُ مذاقِها ... بالموردِ العذبِ الهنيِّ السُّكَّري
عجباً لهاتيكَ الفصاحة إنها ... حوتِ الفصيح من الصِّحاح الجوهري
نُظمتْ قوافي للعقولِ تخالُها ... نظمَ اللآلي في نحورِ البكَّرِ
فكأننِّي وكأنَّها عند اللِّقا ... خلاَّنِ قد جُمعا بروضٍ مُزهرِ
أو زورةٌ منَّ الحبيبُ بها على ... معشُوقه أو لثمُ بدرٍ مُسفرِ
وقوله من أخرى، أولها:
هذا الغزالُ فإنِّي منه في شُغلِ ... وصارَ وجدي به ضرباً من المثلِ
وغازلتنيَ منه العينُ فانبعثتْ ... منِّي معاني صحيحِ الشَّوقِ والغزلِ
بدرٌ فما البدرُ إلا من تكوُّنِه ... لكنَّه فاقه بالحليِ والخجلِ
فقدُّه خوطُ بانٍ قد أمال به ... لطفُ النَّسيمِ إلى وصلي فلم يملِ
وطرفه الغنجُ الوسنانُ أودعَهُ ... داعي الهوى حوراً لكن مع الكحلِ
وآسُه فوق ورد الخدِّ تحسَبه ... وشياً من النَّمل أو نوعاً من الرَّملِ
والخالُ يدعو إلى رَيحانِ عارضه ... أهلَ الغرامِ على خوفٍ من المُقلِ