للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعلى كلِّ حالٍ هو إنسان، كلُّه إحسان، وكلُّ عضوٍ في مدحه لِسان.

به الفتوَّة يسهل صعبها، ويلتثم شعبها.

وهو في صدق وفائه، ليس أحدٌ من أكفائه.

وقد اتَّحدْت به من منذ عرفت الاتِّحاد، فما رأيته مال عن طريق المودَّة ولا حاد.

وله علي حقُّ مشيخةٍ أنا من بحرها أغترف، وبألطافها الدائمة أعترف.

وكثيراً ما أرد وِرده، وأقتطف ريحانه وورده.

فأنتشق رائحة الجِنان، وأتعشَّق رائِحة الجَنان.

بمحاضرةٍ تهزُّ المعاطف اهتزاز الغصون، ورونقِ لفظٍ لم يدع قيمة للدُّرِّ المصون.

إذا شاهدتْه العيون تقرّ، وإذا ذوكِرت به نوب الأيَّام تفِرّ.

في زمنٍ انفصمت من أعلامه تلك العقود، ولم يبقَ فيه إلا هو آخر العنقود.

فإن شئت قلْ: جعله الله خلفاً عن سلف، وإن أردت قلْ: أبقاه الله عوضاً عن تلف.

فممَّا أخذتُه عنه من شِعره الذي قاله في عنفوانه، وجاء به كسقيطِ الطَّلِّ على ورد الروض وأقحوانه. قوله من قصيدة:

بأبي من مُهجَتِي جرحَا ... وإليه الشوقُ ما برحَا

دأبهُ حربِي وسفكُ دمِي ... ليتهُ بالسلمِ لوْ سمحَا

غصنُ بانٍ مُثمِرٌ قمراً ... يتهادَى قدُّهُ مرَحَا

مذْ تثنَّى غصنُ قامتِهِ ... عندَليبُ الوجدِ قد صدَحَا

أي خمرٍ أدارَ ناظِرُه ... ما سقَى عقْلاً فمنه صحَا

إن رآنِي باكِياً حزناً ... ظلَّ عُجباً ضاحِكاً فرحَا

إن يكنْ حزنِي يُسرُّ به ... فأنا أهوَى به البُرَحَا

وعذولِي جاءَ ينصحُني ... قلتُ يا منْ لامنِي ولَحَا

ضلَّ عقلِي والفؤادُ معا ... ليس لي وعْيٌ لمن نصحَا

جدْ وجدِي عادِمٌ جلَدِي ... غاض صبرِي والهوَى طَفحَا

لم يزلْ طرفِي يسِحُّ دماً ... إذ به طيرُ الكرَى ذبِحَا

هذا معنى متداول، منه قول الشِّهاب الخفاجي:

ولو لم يكنْ ذابِحاً للكرَى ... لما سالَ من مقلتيَّ النَّجيعُ

آهِ واشوقاهُ مِتُّ أسًى ... هل دُنُوٌّ للذي نزحَا

إن شدتْ ورقاءُ في فنَنٍ ... شدوُها زندَ الجوَى قدَحَا

وإذا ما شامَ طرفَ الشَّ ... امِ طرفِي للدِّما سفحَا

يا سقى وادي دِمشقَ حياً ... طاب مغتبقاً ومصطبَحَا

وكتبت إليه من مصر: سيِّدي الذي له دعائي وثنائي، وإلى نحوه انعطافي وانثنائي.

لا عدمت الآمال توجَّهها إليه، وكما أتمَّ الله النعمة به فأتمَّها عليه.

أُنهي إليه دعاءً يتباهى به يراع ومِهرق، وثناءً يجعلُ طيبُه فوق سالفٍ ومفرق.

متمسِّكاً من الودِّ بحبلٍ وثيق، ومن العهد بما يتعطَّر بها النَّشر الفتيق.

ومتذكِّراً عيشاً استجليتُ سناه، واستحليت ثناه.

وإنِّي أتلهَّب على طول نواه، وحرِّ جواه.

وقد وسمتَ بإقبالك أياميَ الغُفل، وفتحتَ بمذاكرتكَ عن خِزانة قلبي القُفل.

إلى أن صرف الدهر بحدثانه، وحكم على ما هو شأنه بعدوانه.

وأعاد عليَّ العين أثرا، والخُبرَ خَبَرا.

واللقاءَ توهُّما، والمناسمة توسُّما.

فتذكُّري لأيَّامك التي لم أنسَ عهدها، تركني لا أنتفع بأيام الناس بعدها.

وإنِّي لا أرتاح إلا بذكر فضائلك، ولا أستأنس إلا بكرم شمائلك.

أمزج بها الضَّحايا فتتبسَّم، وأستدعي بها صبا القبول فتتنسَّم.

ولولا اشْتعالُ النارِ في جذوةِ الغَضَا ... لما كان يدرِي المرءُ ما نفحَةُ النَّدِّ

وأما الأشواقُ فإن القلبَ مستقرُّها ومستودعها، ومحلُّها ومجتمعها.

وهو عند مولاي فليسأل به خبيرا، وأما الأثنية فإنها على ألسنة الرُّكبان فلينشر بها حبيرَا.

وإلى مثلك يتقرب بإخلاص الوِداد، ومن فضلك تُجتنى ثمرة حسن الاعتقاد.

فسلامي على هاتيك الشَّمائل، سلامُ النَّدى على ورقِ الخمائل.

وتحيَّتي لتلك الحضرة، تحيَّةُ النسيم للماء والخضرة.

وأما دِمشقُ فشوقي إليها شوق البلبل إلى الورد، وامرؤ القيس إلى الأبلق الفرِد.

وأنا مهدٍ تسليماتي إلى كلِّ يابِس من دوحِها وأخضر، ومتبرِّج من ثمراتها في قِباء رواءٍ أنضر.

وأشتاق عهدها والعمرُ ربيعٌ نضر، والرَّوض جرَّ عليه ذيله الخضر:

<<  <  ج: ص:  >  >>