للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وربما انعكس ذلك إلى المسامع، لكن على كل خير مانع.

فقد تجري الرياح، بما لا تشتهي الملاح.

فإن تكُ قد عُزلْتَ فلا عجيبٌ ... ضياءُ الشمس يمْحوهُ الظلامُ

ويعز علي أن أنظر إلى ذلك الصدر، وقد جلس فيه غير ذلك البدر.

وإني لأستحي لعيني أن أفتحها على الصغير، وقد جلس مجلس الكبير.

فإني لذلك ضيق ساحة الصدر، قريب غور الصبر.

كثير المباراة، قليل المداراة.

فما أسرع الأيام على الكريم فيما يضره، وعلى اللئيم فيما يسره.

فترفع كل وغد خسيس، وتخفض كل حرٍ نفيس.

وكالبحر يسفل فيه الجواهر اللطيفة، وتطفو فوقه الجيفة.

وكالميزان يدفع من الكفة ما يميل إلى الخفة ويخفض ما يفي بالرجحان، ويبعد من النقصان.

لولا الحظُوظُ التي في عقلِها بَلَهٌ ... لما علاَ الشمسَ بَهْرامٌ ولا زُحَلُ

ولا بدع، فهي علامة، على قيام القيامة.

وهذا الخروج، مقدمة يأجوج ومأجوج.

يا ضَيْعةَ الأعمارِ في طلبِ العلى ... بالعلمِ والنَّسب الذي بالشِّينِ

ولا غرو، فهي للدهر شيمةٌ مألوفة، وسجية في الكرام معروفة.

على أن المنصب بصاحبه، والمركب براكبه.

فالصغير منه بالكبير كبير، والكبير منه بالصغير صغير.

أنت الكبيرُ الذي لا العزْلُ ينْقُصُه ... قدراً ولا المنصب العالي يُشرِّفُهُ

ووقفت له على تحريرة كتبها على بيت المتنبي:

وكذا الكريمُ إذا أقام ببلدةٍ ... سال النُّضارُ بها وقام الماءُ

قال فيها: المفهوم من كلام الواحدي، أنه اختار كون قوله " وقام الماء " معطوفاً على الجزاء، أعني " سال "؛ فيكون داخلا تحت الشرط؛ ليتم التشبيه في خرق العادة في كلا الأمرين، ويظهر وجه الاتصال في البيتين كما قرره.

ولا شك أن المعطوف على الجزاء جزاء، فيحتاج حينئذ إلى بيان وجه لزوم الجزاء للشرط وتسببه عنه.

والذي يظهر في وجهه، أن معنى " قام الماء " أن الماء جمد تحيراً وخجلا واستعظاما؛ لما رأى عظيم سخائه، وشاهد عميم جوده وعطائه.

وقد صرح بتفسير ذلك في البيت الذي بعده حتى صار جلياً، بحيث يصلح أن يكون استئنافياً بيانياً، أعني قوله:

جَمد القطار ولو رأتْه كما رأى ... بُهِتتْ فلم تتَبَجَّسِ الأنْواءُ

إذ الضمير في قوله: " كما رأى " يعود إلى القطار.

والمراد بالقطار، هو الماء المذكور في البيت الذي قبله، كما لا يخفى، وإلا لم تظهر المناسبة والاتصال.

هذا ما خطر بالبال.

وأما ما استفدناه من تجويز كون الواو للحال، فذلك الوجه الوجيه، تنحسم به مادة الإشكال، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

ومن عجيب الاتفاق أنه وقع ما هو قريب من هذا الاستشهاد في تفسير بيت عويص، عرض من هذه القصيدة على سبيل الاستطراد، وهو قوله:

لا تكثُر الأموات كثرة قِلَّة ... إلا إذا شقِيتْ بك الأحياءُ

محصل ما حكاه الواحدي، من كلام ابن جني، في تفسير البيت، أنه على حذف مضاف، تقديره " شقيت بفقدك ".

والمعنى، أنه لا تصير الأموات أكثر من الأحياء إلا إذا مت.

واستبعد الواحدي أن أحداً يخاطب ممدوحه بمثل هذا.

ومحصل ما ذكره الواحدي، في معنى البيت، أنه أراد بالأموات القتلى، وتقدير المضاف المحذوف شقيت بفضلك وقتلك إياهم.

والمعنى، إذا غضبت على الأحياء، زادت الأموات بمن ينقصهم قتلك من الأحياء.

وفي كل من الوجهين تعسف لا يخفى، ولكن يشهد لقول ابن جني حكاية أبي عمر السلمي، قال: عدت أبا علي الأوراجي ممدوح المتنبي، في علته التي مات فيها بمصر، فأنشدني قوله فيه: " لا تكثر الأموات " إلخ، ثم لم يزل يكرره ويبكي حتى مات.

وروى السلمي في حكايته: " فجعت " مكان " شقيت ".

ويشهد لقول الواحدي، البيت الذي بعده، فإنه مناسب للمعنى الذي ذكره.

ثم يساعد الأول، معاني الأبيات التي قبله، من وصف عموم كرمه وإحسانه للناس، فناسب أنهم يشقون بفقده، ويكادون يموتون من بعده. فليتأمل.

وقال الواحدي، في تفسير قوله: " كثرة قلة "، أي: كثرة في الأموات تحصل عن قلة الأحياء.

ولا يخفى ما في هذا المعنى من كثرة السماجة، وقلة الجدوى، وتحصيل الحاصل، من غير دليل يدل على أن كثرة الأموات مضافة إلى قلة غيرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>