فإن الليالي مع أنها ولود بمثله لم تنجب، والدهر على أنه أبو العجب إلا أنه بأعجب منه لم يعجب.
كان مقيما بقرية جُبَع من جبل عاملة، يركض جدواد طبعه في ميدان الفضل ويهز عامله.
حتى طوى على طيِّ شقة الأرض، واستأذن من طرف الخضر في ذرع مساحتها من الطول والعرض.
فخرج يركض النَّجائب، ويتبع في سيره العجائب.
ويحن ويئن، وما له قلبٌ مطمئنّ.
وهم سالم المهجة مع مس الضر، معافى الحشاشة مع الفقر المرّ.
فلم يفده البعد عن أحبابه، إلا تبييض مسودّ شبابه.
فاعتاض عن السواد بالبياض، وبئس والله هذا الاعتياض.
ثم رجع إلى ووطنه شاكيا وعثاء السفر، ومنشداً عند خيبة المسعى وتخلف الظفر:
نجيبُ أبناء الزمان مَن به ... نَضارةُ الدهر ورَيْعانُ المنَى
طوَّف آفاقَ البلاد ليرى ... له نظيراً في الذَّكا فما رأَى
فعاد بعد طول عمر نَأْيه ... بصفْقة المغْبون يُبدي المشتكى
وأصبحتْ عينُ البلاد بعده ... لبُعده مملوءةً من القَذَى
ونظم رحلة تتلاشى عندها الرّحل، وأودعها من أبكار أشعاره ما ليس بالدَّخيل ولا المنتحل.
وهو في النظم مقدَّم غير مؤخَّر، وكأنا القلم لإطاعته مسخَّر.
وقد أوردت له ما تبتهج به الأزمان، وتتنادم عليه في مجالس أنسها النُّدمان.
فمنه قوله:
عِزَّة النفس وانقطاع النصيب ... أوجبا ذِلَّتي وهجر الحبيبِ
فتعوَّضت عن مَرامي وقصدي ... ببِعادي عنه وقربِ الرَّقيبِ
وانْقضى العمر في الأماني وما كنْ ... تُ إلى الله راجعاً من قريبِ
هو دائي إذا يشَا ودوائي ... فهْو ما زال عِلَّتي وطبيبي
وقوله يمدح السيد مبارك بن مطلب حاكم الحويزة:
يا سائلي عن أرَبي ... في سفرِي ومَطْلبي
لي مطلبٌ مبارك ... مُباركُ بنُ مطلبِ
نجلُ علىِّ المرتضَى ... سِبْطُ النبيِّ العربي
الطيِّب بن الطيبِ بْ ... نِ الطيب بن الطيبِ
أمانُ كلِّ خائفٍ ... غِياثُ كلِّ مُجدِبِ
مُنيلُ كلِّ نعمةٍ ... من فضةٍ وذهبِ
في فضلهِ وجودِه ... تسمُع كلَّ العجَبِ
الأسدُ الكاسر لا ... يخْشاه فَرْخُ الثعلبِ
كما السِّخالُ جملةً ... ترعى وجُرْدُ الأذْؤُبِ
والفُرْسُ والتُرْك له ... دانتْ وكلُّ العربِ
إذا حَللْتُ أرضَه ... نسيتُ أمي وأبِي
وأسرتي وولدي ... بنتاً يكون أو صبي
ومن يكنْ حَيْدرةٌ ... أباه والجدُّ النبي
فكلَّما تصفُه ... مِن دون أدنى الرُّتَبِ
وله من قصيدة، مطلعها:
ألا هل لُمضَني هجركم من يعودُه ... فيخضرُّ بعد الهجر بالعَوْد عُودُهُ
وهلاَّ وعدتُم إذ بَخِلتم بوصْلِه ... فقد تجبُر القلبَ الكسيرَ وعُودُهُ
وَتُحْيَ نفوسٌ صَوَّح الدهُر نَبْتَها ... وتُجنى رياحينُ الِّلقا ووُرودُهُ
فقد هجرتْه لذَّةُ النومِ بعدكم ... ومَشْرَب صافي الودِّ عَزَّ وُرودُهُ
دنَوْتم فأحيَيْتم قلوباً بوصلكمْ ... وقلبي بِحَرِّ النأْيِ مات وجودُهُ
بَخِلتُم على مُضناكمُ وهْو عبدكمْ ... وما حاتمٌ إن عُدَّ يوماً وَجُودُهُ
وكتب إلى الحريريّ الحرفوشيّ:
سعِدتَ بَلثْم كَفٍّ يا كتابي ... لمولىً عالم عَلَمٍ مُمَجَّدْ
فتًى في الفضل ليس له نظيرٌ ... عويصُ المشِكلات له تمهَّدْ
بني رَبْعَ العلى بعد انْهدامٍ ... وجدَّد ما وَهَى منه وشيَّدْ
له قلمٌ إذا ما جال يوماً ... فما الخَطِّىُّ والعَضْب المهنَّدْ
فخُصَّ من السلام مدَى الليالي ... بتسْليم جزيلٍ ليس ينْفَدْ
اغتناما للفرصة، وحذراً من فوت ما ليس في تركه مندوحة ولا رخصة.
وجَّهت هذه العجالة، معتمداً على الاختصار مضربا عن الإطالة.