للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مكانته من الشهرة حيث يستبين للمبصر النهار، وطبعه يتنفس عن المعاني تنفس الروض عن الأزهار.

وله عذب لفظٍ يلفظ الدرر الزواهر، وفي غير هذا العذب لا تتكون الجواهر.

نظم فيوزِّع على العقول سحراً، وينثر فيفرق على الأفواه دُرًّا فهو يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه.

إذا خط في الطرس نم ببدائع الآثار، وأطرب حتى كأن قلمه مضرابٌ وسطوره أوتار. فيجيء من أبكار افكاره، بما يستعير الرحيق السلسل من فضل إسكاره.

وكان دخل الروم مقدراًَ أن المتاع بأرضه يسترخص، وأن المرء يبلغ مناه في أي وجه يشخص.

فلم يحصل على ما يستحقه وفور كماله، فقال يذكر ما لقيه من تخلف آماله: لما ضاقت رقاع بلادي، ونفدت حقيبة زادي.

فوقت سهام الاحتيال، وأجلت قداح الفال.

فكان معلاها السفر، سفينة النجاة والظفر.

طفقت أتوكأ على عصا التسيار، وأقتحم موارد القفار.

أفرى فلاةً يبعد دونها مسى النعى، وألطم خدود الأرض بأيدي المطى.

فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى، واعتنقته الهمة العاقر وألقحت بعزمه لواقح المنى.

أساير عساكر النجوم والأفلاك، وقد ركز الليل رمح السماك.

فأنخت راحلتي بمخيم المجد، وقرارة ماء السعد.

كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان.

فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير.

إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتاساب أثلاثا، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها علىَّ أجداثا.

وسقتني الدردى من أول دنها، وسوء العشرة باكورة فنها.

كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها، وأسيغها على كدرتها.

وأقول: إذا لم تتمَّ الصدور فستتم العواقب.

وإن لم ترش القوادم فستريش الخاوفي والجوانب.

وكتب إلى حلب لبعض أودائه: وأيم الله لقد طال حديث الفراق واستطال على سلطانه، وقد قرأت كتابه فما سرني خاتمته، بقدر ماساءني عنوانه.

وكلما محت أنامل وشك الملتقى من أسطره سطرا، خطت أقلام ممليه عوضه عشرا.

وكلما استنهضت عزيمتي أقعدتها كلا كل التَّواني، وحالت بينها وبين مخدارت الأماني.

فإلى الهل عز وجل أرفع يد التضرع، وأذرى في ساحة الدعاء دموع التفجع والتوجع.

أن ينظم ذات البين، ويجدع بحد الاجدتماع مارن البين.

وكتب من تعزية بنقيب أشراف حلب: ما أيقنت أن قسطنطينية هي الجزيرة السودا حتى وقع لدىَّ طير هذا النعى الذي ما زال حامله يلطم خدود الأرض بأيدي المطى.

فياله من خبر حينٍ زاد في مرض القلوب، وشقَّ الأكباد قبل الجيوب.

وقرأت ما كتبته أقلام التفجع بأفواه الجفون، ونثرت عندها عقد شملي المصون.

حيث لم أدخر لسفر هذه الفرقة من زاد، ولا بلَّيت غليلها ببراد.

وأيم الله ما ذكرت لطائم أخلاقه الغر، وحلاوة منطقه الحر.

وقطفه نور الفضائل، وإهداءه باكورة المسائل.

وإحرازه قصب السبق، وثبوت قدمه على جادة الصدق.

وإيواءه لي في حواشي وده الخصيب، وإلباسي كل يوم رداءً لفقده القشيب.

إلا اتقدت عليه حراً، وتأبطت على الحمام شرا.

وأسأل الله تعالى أن يجعل وفاته خاتمة كتاب الرَّزايا، وقافية بيت البلايا.

وأن يقلم ظفر مصابه بأنامل الصبر، ويذيقكم عن مرارة صابه حلاوة الأجر.

ومن شعره في أيام اغترابه، يشتكى من كثرة اضطرابه:

أمَا لأسيرِ الروم فَكٌّ من الأسْرِ ... فقد ملكتْ آرامُها القلبَ بالأسْرِ

بها نثرُ شَمْلِي من ثغورٍٍ تنظَّمتْ ... فيالكَ من نَظْمٍ غدا داعيَ النَّثْرِ

ولا بِدْعَ في أرضِ الثغُورِ شتَاتُنا ... ومَن لي بَلثْمٍ سَدَّ ذَيَّالك الثَّغرِ

يُذكِّرنا رَوْعَ العذارَى بمنْزلٍ ... أجادَ المنازِي وَصْفَه غابرَ الدَّهرِ

إذا همستْ في شُكْرِ غيرِك ألْسُنٌ ... فأنت لك الأسفارُ تُعلِن بالشُّكْرِ

بقيتَ لك العلياءُ تُعْطِى قِيادَها ... بتلك اليدِ البيضاءِ والبِيضِ والسُّمْرِ

وله يتشوق إلى أحبابه، ويحن إلى معاهد صبوته وشبابه:

يا بريدَ الأشواق أوْجِفْ لدارٍ ... هي مُصْطاف لَوْعتي وشبابِي

<<  <  ج: ص:  >  >>