للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنما العارِضُ لمَّا بدا ... قد صار للحسن جناحاً فطارْ

ونسخت آية جماله، وكسفت آية هلاله، وحال ذلك البها عن حاله.

وصار ضياء محاسنه ظلاماً، وعقيان ملاحته رغاما.

لو فكَّر العاشقُ في مُنتهى ... حسنِ الذي يسْبيه لم يسْبِهِ

ولما بطل سحر هاروت أحداقه، وفكت الأفئدة من وثاقه.

عطف على محبيه يستمد ودادهم، ويستقى عهادهم.

وكان شأنه مع الجميع، شأن الفضل بن الربيع.

فاندرج في مقولة الكيف، وعلم أن المحاسن سحابة الصيف.

وأصبح عبير وحده، وصده من ريع بصده.

وجعل زي الزُّهاد شعاره، واتخذ من الشعر صداره.

حداداً على وفاة حسنه البهيج، وفوات جماله الأريج.

وما زال يرثى أيام أنسه، وينعى ما يتعاطاه من الكيف على نفسسه.

حتى ضاق نطاق حضيرته، ومل الإقامة بين عشيرته.

فأعطى عنانه ليد البعاد، وامتطى غارب الإتهام والإنجاد.

كأنَّ به ضِغنا على كلِّ جانبٍ ... من الأرض أو شوقاً إلى كلِّ جانبِ

إلى أن بلغه الله غاية المأمول، ووفقه بأن استوطن مدينة الرسول.

وأقام بجوار الشفيع، إلى أن غيبه بقاع البقيع.

وفي كثرة أسفاره يقول:

أنا التاركُ الأوطانَ والنازحُ الذي ... تتبَّع ركبَ العشقِ في زِيِّ قائفِ

وما زلتُ أطوِى نَفْنَفاً بعد نَفْنَفٍ ... كأنِّيَ مخلوقٌ لِطَيِّ النَّفانفِ

فلا تعذِلوني إن رأيتم كتابتي ... بكلِّ مكان حلَّه كلُّ طائفِ

لعل الذي بايَنْتُ عيشِى لبَيْنِه ... وأفْنيْتُ فيه تالِدِي ثم طارِفِي

تكلِّفه الأيامُ أرضاً حَلْلتُها ... ألا إنما الأيامُ طَوْقُ التكالُفِ

فيُملي عليه الدهرُ ما قد كتبتُه ... فيعطِف نحوي غصن تلك المعاطِف

ومن بدائعه قصيدة ينعى بها نفسه على أكل الأفيون، ويتأسف على ماضي حسنه:

مَن يُدخِل الأفيونَ بيت لَهاتِه ... فْلُيْلق بين يديْه نْقدَ حياتِهِ

وإذا سمعتم بامرئٍ شرِب الرَّدَى ... عَزُّوه بعد حياته بمماتِهِ

لو يا بُثَيْنُ رأيتِ صَبِّك قبل ما ال ... أفيون أنحْلَه وحلَّ بذاتِهِ

في مثل عمرِ البدر يرْتَع في ريا ... ضِ الزَّهْوِ مثل الظَّبْيِ في لَفَتاتِهِ

من فوق خدِّ الدهر يسحب ذيلَ ثو ... بِ مُناه أنَّى شاء وهْو مُواتِهِ

وتراه إن عبَث النسيم بقَدِّه ... يْنقدُّ شَرْوَى الغُصْنِ في حركاتِهِ

وإذا مشى تِيهاً على عُشَّاقه ... تتقطَّر الآجالُ من خَطَراتِهِ

يرْنُو فيفعلُ ما يشاء كأنما ... ملَكُ المَنَّية صال مِن لَحَظاتِهِ

لرأيتِ شخصَ الحسنِ في مِرآتِهِ ... ودفعْتِ بدرَ التِّمِّ عن عَتَباتِهِ

وقوله، من أخرى:

يا هذه إن أنتِ لم تدرِ الهوى ... تجْحديه ففي الهوى اسْتحْكامُ

وأبيكِ كنتُ أحَدَّ منك نواظراً ... وبكل قلبٍ من جَفايَ كِلامُ

والسحرُ إلَّا في لساني منطقٌ ... والحسنُ إلا في يدَيَّ خِتامُ

لَدْنَ القَوامِ مَصُونةً أعطافُه ... عن أن تَمُدَّ يداً له الأوْهامُ

مُتمنِّعا لا الوعد يُدْنِى وَصْلَه ... يوماً ولا لخيالِه إلْمامُ

حتى خلقْتِ السقمَ فيه بنظْرةِ ... ولقد يُلاقِى ظُلْمَه الظَّلَّامُ

وتنوَّعتْ أدْواؤه فبطرْفهِ ... شكلُ الرقيبِ وفي الصِّماخِ مَلامُ

ودخل دمشق فاتخذ الأمير منجك نديم مجلسه، ومطمح أماني ترنحه وتأنسه.

فتوافق الليل والسمر، واجتمع الشمس والقمر.

على السعد في هذا القرأن، والتنافس من أماجد الأقران.

فجالس الفتح به القعقاع، ولم يقل: الفضل للمتقدم. كما قال ابن الرقاع.

وله فيه قصائد منها داليته التي أولها:

نثر الربيعُ ذخائرَ النُّ ... وَّارِ من جَيْب الغوادِي

وكسا الرُّبى حَللا فَو ... اضلُها تُجرُّ على الوِهادِ

<<  <  ج: ص:  >  >>