للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حضرةٌ تقلدت أعناق الرجال بقلائد نعمها، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها، وسعت أفكار بني الآداب ما بين صفا منثورها، ومروة منظومها.

لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها، والانام حالية النحر بأياديها.

وكقوله: هو صدر الدنيا، وركن العليا، وواسطة عقد ورثة الأنبياء، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحيا.

دعوَى لا يُداخل بنيتها وهم، ونتيجةٌ لا يشين مقدماتها عقم.

فإن من كان صدر بني هاشم، وشنب ثغر مجدهم الباسم، وهم وهم في الرفعة والمنعة، كأن أجل موجود، وأعظم من في الوجود.

وكقوله: قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة، وأسبابا العليا على ملازمة عتباتها مقصورة.

إن عقد عبوديتي لا تطاول إليه الأيام بفسخ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ.

وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوة، أم كيف ينسخ وسورته على كل حين باللسان متلوة.

ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها، والتقاطي الدر من مذاكرتها.

وما كان بيننا من المصافاة التي أين منها مصافاة الماء مع الراح، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد والتفاح.

وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها، وما تودعة في صدفة آذاننان من جواهر آثار عدالتها.

لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيءٍ من ذلك، دعونا الله عز وجل هنالك.

بأن يزيد باع عدلها امتدادا، وشعاع فضلها سطوعا واشتداد.

وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عينٌ طامحة، أو تجنح نحوه نفسٌ جانحة.

هذا والمتوقع من كرمها، كما هو المألوف من شيمها، ألا تخرجنا من ضميرها المنير، وأن تعدنا في جريدة من يلوذ بقماقها الخطير.

والله تعالى يبقى لنا تلك الحضرة، سامية الركاب، عالية القباب، في رفعة دونها قاب العقاب.

ومن شعره قوله، يخاطب بعض أحبابه:

رُوَيْدَك شأنُ الدهر أن يتغيَّرا ... وشِيمتُه إمَّا صفَا أن يُكدَّرَا

وعادتُه الشَّنْعاء في الناسِ أنه ... إذا جاء بالبُشْرى تحوَّل مُنذِرَا

فلا بُؤْسُه يبَقى وأمَّا نعيُمه ... فكالطَّيْف إذْ تلقْاه في سِنة الكَرَى.

فلا تَكُ مسروراً إذا كان مقبِلا ... ولا تكُ محزوناً إذا هو أدْبَرَا

فأيُّ دُجَى هَمٍّ دَهاك ولم تجدْ ... صَباحاً له بالبِشْرِ وافاك مُسْفِرَا

وقد هُزلتْ أيامُنا فلَوَ اُنَّها ... أتتْتنا بجِدٍّ كان للهزلِ مَصْدرَا

منها:

وليس يعيبُ البدرَ فُقْدانُ نُورِه ... إذا كان بعد الفَقْد يظهر مُقْمِرَا

وما جُعَلِيُّ إن جفَا الوردَ إذْ به ... أضَرَّ بداعٍ أن يُذَمَّ ويُهْجرَا

الجعل يتأذى برائحة الورد، وكذا المزكوم، والحسناء إذا ابتليت بذامٍ، فهي كالورد مع الجعل، وصاحب الزكام.

ومما يلحق بهذا أن الوزغة تكره رائحة الزعفران، وتهرب منه.

وعليه بنى البتار قوله في هجاء الغندلي، وقد وصل إلى بابه، فتحجب عنه:

تحجَّب الغُنْدَلِيُّ عنِّي ... فساءَ مِن فعلِه ضميرِي

يَنْفر من رُؤْيتي كأني ... مُضَّمخُ الجَيْب بالعبيرِ

وله من قصيدة، يخاطب بها أيضاً صديقا له:

تزُول الرَّواسِي عن مقَرِّ رسُومِها ... ووُدِّي على الأيام ليس يزولُ

ولستُ بمَن يُرضيه من أهل وُدِّه ... خَفِيُّ ودادٍ في الفؤادِ دخيلُ

إذا لم يكن في ظاهرِ المرءِ شاهدٌ ... على وُدِّه فالودُّ منه عليلُ

أأرْضَى بوُدٍّ في الفؤاد مُغيَّبٍ ... وليس إلى علم الغُيوبِ سبيلُ

وأقْبلُ عن هجري اعتذاراً مُزيَّفاً ... تمحَّلْتَه إنَّي إذا لَجُهولُ

لَعَمْرُك قد حرَّكتَ مَن كان ساكتاً ... وعلَّمتني بالعَتْب كيف أصُولُ

وله من قصيدة:

فياليتَ شِعْري هل لعمروٍ مَزِيَّةٌ ... إذا ازْداد واواً وهْو في رُتبة الذُّلِّ

وهل شَان بسمِ الله وهْي عزيزةٌ ... تمنُّعها في الخطِّ عن ألفِ الوصلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>