ولقد لقيته بالروم سنة سبع وثمانين، وأنا في أيام تلك الغربة راعى سنين.
ولي فؤاد إلى المخالطة شيق، وصدر يسع هم الدنيا وهو ضيق.
فنزلت منه بحيث ملتقى الصدر الرحب والمحيا الوسيم، وحليت بقلبه حلول المسرة وهببت في روض أخلاقه هبوب النسيم.
وكان لي من مجلسه نضرة الريحان، ونفحة الروض وطرب الألحان.
أشيم خضرة ترف في زهرة حسن، وأجتلي روضة في ناظر ونجوى في أذن.
وهو أناله الله من كرمه أفضل إنالة، لا يقترح على الأيام مطلبٌ إلا قال: أنا له.
إلا أن له حبائل تعتلقه، ومطامع لم تزل تعتلقه.
فعوادي الأايام عليه ملحة مكبة، وبواعث صفوها مريحة مغبة.
وهو من بعد الهمة، ووساوس الشدة المدلهمة.
في قسوة سدت عليه طريقاً ومنهجا، وآيسته من أن يلقى مفرجاً ومخرجا.
فأبي له التخيل، إلا التصنع والتحيل.
فدبر أمراً تحراه، ونسب فيه إلى أنه افتراه.
وكان سهوه فيه أكثر من تيقظه، ووقعه أقرب إليه من تحفظه.
فخرج متحسباً إلى مصر، وهو زميل همٍ مبرح وإصر.
ثم عدل الحقيقة عن المجاز، وتوجه إلى مثابة الحجاز.
فحج البيت الحرام وعاد، ودخل بلده وهو من توفر الحظ على ميعاد.
فلم يلبث حتى مد عنان النظر، وتدرج إلى حالٍ أفضت به للأمر المنتظر.
وسبب ذلك أنه وقع بحلب غلا، نهض به سعر الأشياء وعلا.
وكان حاكمهم العرفي سارع إليهم مدده، وتوفرت لعنايتهم أنصاره وعدده.
فانجذبت إليه قلوب الخاصة والعامة، وصاروا يحوطونه من سمة النقص بالكلمات التامة.
واتفق أن الحجازي دعاه ليلة إليه، فلما مضى عنده لم يستقر حتى حقت المنية عليه.
فنسبوه إلى أنه اقتدح في هلكه زنداً ورية، وسقاه الحمام كاساً روية.
ولما خرجوا بجنازته ليودعوه القبر، رأوا الحجازي أمامهم فلم يملكهم عن قتله الصبر.
وشغلوا عن الرثاء بطلب الثار، ولم يجدوا مثلها فرصةً تخمد هذا العيب المثار.
فرمته عن قوسها سهام القضاء الصوائب، وعضت منه إبهام الإبهام بنابها النوائب.
فبقي جسده على الأرض مطروحاً، كأن لم يكن في روض المعارف غصناً مرحاً.
وبلغت أمانيها من ذهابه الأغراض، ولله تعالى المشيئة فليس لنا اعتراض.
فأنا إذا أفكرت في صرعته، وأخذتني لوعة محنته وروعته.
ملكتني عبرة تترقرق، أكاد بمائها أشرق.
وأرغب إلى الباعث بعد الحمام، مادثر من هوامد الرمام.
أن يهبه رحمته وعفوه، ويعوضه عن كدر دنياه النعيم وصفوه.
وقد أثبت من أشعاره التي طلعت محاسنها سافرة المحيا، وسرت سرور الحبيب أحْيَي وحَيَّي.
ما حشوت حينا من دره الثمين مسمعي، فإذا تلوته بكيت فضائله فيبكي السامع معي.
فمنه قوله، من نبوية مستهلها:
أهلا بنَشْر من مَهَبِّ زَرُودِ ... أحْيَي فؤادَ العاشق المنْجودِ
وروى شذَى خبر العقيقِ ففجَّرتْ ... منه عيونَ الدمع فوق خدودِ
ونمَى فنمَّ لنا بأسرار الهوى ... من حيث منزلةُ الظباءِ الغِيدِ
تلك المعاهدُ جاءَها صَوْبُ الحيا ... وسرى النسيمُ بظلها المدودِ
فيها بواعثُ مُنْيتي ومنيَّتي ... وبوِرْدها ظمأِى وطِيبُ وُرودِى
إن تَنْأَ عن عيني بدورُ سمائِها ... فأنا المُقيم على رَسِيس عهودِى
كيف الخلاصُ ولي فؤادٌ مُوثَقٌ ... بالحب لا يُصغِي إلى التفنيدِ
تأوُّه لولا دموعي لم يكدْ ... ينْجو الورى من جَمْرها المَوقُودِ
هذا من قول الآخر:
لولا دموعَى لم يكدْ ... ينْجو الورى من نار قلبِي
وقول الآخر:
لولا الدموعُ وفَيْضُهنَّ لأحرقتْ ... أرضَ الوداعِ حرارةُ الأكبادِ
وأشبه به قول رباح:
نار يُغذِّيها السحابُ بمائِه ... فلذاك لم تكُ ترتمِي بشَرارِ
ولابن عبد ربه، من أبيات ربيعية:
والأرضُ في حُلَلٍ قد كاد يحرقُها ... توقُّد النَّوْر لولا ماءُها الجارِي
وقد قلبه الحرفوشيّ كما تقدم في قوله:
ومدامعي لولا زفيري لم يكدْ ... ينْجُو الورى من سَحِّها المُتَوالِي
داء تَعَوَّدَهُ فؤاد متيَّمٍ ... لم يلتحِفْ غيرَ الأسَى ببُرودِ