وأنا إذا بسطت فيها القول، وهدرت هدر الشول.
فغاية ما أقول: هي العروس المتبرجة، والروضة المتأرجة.
فصان الله جمالها وجلالها، ووقى من حر الهجير ببرد النعيم ظلالها.
ولا زالت قوافل العوائد الإلهية واصلةً إليها، ودامت دار إيمانٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومع ما أعطاها الله من تحفٍ تحف بها وكرامة، فقد اجتنت أهلها أثمار الرحلة في ظل الإقامة.
فكلهم عصابة بارعة، وآراؤهم إلى الغوامض مسارعة.
بأنفس كريمة الشمائل والغرائب، وقرائح تقذف بحارها بدرر الغرائب.
وحرص على لقاء كل ذي علم، وتخلق بأخلاق كل ذي مروءة وحلم.
وقد خرج جماعةٌ من أعيانهم، زانوا الأدب وزينوه بحسن بيانهم.
أشعارهم بالألسنة الثلاثة حجة أهل اللسن، وفاضحة المذهبات الثلاث الماء والخضرة والوجه الحسن.
لو كنت أوفيهم حقهم الراتب، وأخلص من تبكيت المزدري والمعاتب.
لجعلت الطرس من صحيفة الخد، والقلم من ألف القد.
ثم كتبت وصفهم بالتبر، فضلاً عن الحبر.
ووهبت للناسخ، نفس ودي الراسخ.
وقلت فليكن الناقل، ممن لا يقذف صفحته إلا إلى الصاقل.
وقد ابتدأت الباب باثنين منهم، رويت حديث الثنا في محلهم عنهم.
وعقبتهم باثنين آخرين، رأيتهما بدمشق وقد بزغا كالقمرين.
ثم أذكر بعدهم من له شعرٌ عربي اطلعت عليه، ثم من له شعر تركي انتخبت من شعره مفردات عربتها ونسبتها إليه: شيخ محمد بن لطف الله بن زكريا بن بيرام أستاذي وملاذي، وعتادي وعياذي.
عين المعالي وإنسانها، وقلب المعارف ولسانها.
صحيفة مجده لم يجد نقط شكلها حسود، وأقلام مدحه ليس همها إلا ركوع وسجود.
أنديته مصب مزن الفضل، فهي ذات سقيط وندىً مخضل.
تبذل الأعمار في لقائه نقدها، وتنتطق الجوزاء في خدمته عقدها.
ومن حق هيبته عند ذوي الآداب، أن يعقدوا إذا لمحوه الحواجب بالأهداب.
أراد البحر أن يحاكي نداه، فقصر عنه ولم يدرك أدنى مداه.
فهو لذلك في اضطراب وأمواجه في التطام، وطفل النبت يغتذي بندى كفه فلا يخشى عليه منها إلا الفطام.
فلو استجارت أوراق الخريف، بظل حمى نداه الوريف.
لما سلبت برداً زهى للعيون وراق، وظلت شاكرةً فضل الربيع بلسان الأوراق.
إليه انتهت الرغائب، وحضر نداه الخضر وهو غائب.
وهو الذي دخلت الروم لأجله، وحصلت من لقاه على أعظم الأمل وأجله.
وهو إذ ذاك عن رتبة البدر متقاعد، ومع الشمس في الظهور رابعة النهار متواعد.
فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، يملأ العين بالحسن والكف بالإحسان.
وله السعادة مهيأة، وبه الدنيا وأهاليها مهنأة.
فوردت بحراً من جوده نميرا، وارتقيت حيث أعد النجم سميرا.
وكم مجلسٍ بين يديه، قرأت فيه سورة الأدب لديه.
تنطقني فضائله بما أنظم فيه من الغرر، فأغدو كمن قلد البحر من فرائده بعقود الدرر.
ثم أفيض عنه فيض النهر، وأنصرف انصراف الصبا عن الزهر.
وقد آليت لا توقعت خيراً سوى خيره، ولا أملت الرغبة عن شق القلم لمدحه غيره.
وصفوي محميٌّ به عن الشوائب، وجسدي محرم على أنياب النوائب.
وكانت لي وراء رأيه مواعيد، كنت منها على نيلٍ قريب غير بعيد.
فعاق عنه موته الذي بدل السرور بالترح، وترك الحزن شامتاً بالفرح.
فدفن به كنزٌ كان في الزمان لقية، وتم به السرور لكل حي وكانت عندنا منه بقية.
فنعته الهمم، وماتت بموته أمم.
وما فُجِعت به الدنيا ولكن ... غدتْ بِفراقه الدنيا يتيمهْ
فعلى قبره من الرحمة الحافة، عدد أنفاس الخلائق كافة.
وقد أوردت له من آثاره التي جلت، وأسفرت عن شمس البلاغة حين تجلت.
ماهو في مقلة الأدب حور، وفي قلب الحسود خور.
فمن ذلك قوله:
يرمِي فيُوقع فتنةَ النَّظَرِ ... وتراه يسألني عن الخبرِ
نَزْهٌ خيالُ الفكر يُغضِبه ... فيكاد يمنعني من الفِكَرِ
ما شاهدتْ عيْنايَ طلعتَه ... إلا وأغْناها عن القمرِ
يُرْجَى من الفِتَن الخلاصُ إذا ... سلمتْ لواحظُه من الحَوَرِ
وقوله:
أترى الزمانَ يُعيد لي أُنْسِي ... ويردُّ بدرِي حاملاً شمسِي
فإذا تكرَّم رحتُ أشكرُه ... وتركتُ يومي عاتباً أمسِي
وقوله:
صافيْتُكم من عهدِ أن ... كنتمْ فما هذا الجفَا