للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دانت له الليالي فجلى بها ظلمات الحنادس، وتدانت له سماء المعالي فاستقر بها وهو للنيرات الخمس سادس.

حتى أصبح الدهر راوياً لخبر إفادته، وناطقاً بلسان إجادته.

وقد جمع الفضائل كلها، وحوى المحاسن دقها وجلها.

ومع ذلك فهو مطلق الهمة لإسداء الهبات، مفيضٌ للمكارم على الفور والثبات.

إذا هطلت سحب إحسانه سقى الجود منه رياض المنى، طلائع إحسانه بشره كما سبق النور غض الجنى.

لم يأت من المراتب شيئاً فريا، وكفل الفضائل والفواضل كفالة زكريا.

وكان مع تبحره في المنقول والمأثور، جامعاً بين حسن المنظوم ورونق المنثور.

وله فيهما ما تقف الفصاحة عنده، وتقفو البلاغة حده.

فمن ذلك ما قرظ به طبقات التقي التميمي.

هذا كتابٌ فاق في أقْرانِه ... يسْبِي العقولَ بكَشْفِه وبَيانِهِ

سِفْرٌ جليلٌ عَبْقَرِيُّ فاخِرٌ ... سحرٌ حلالٌ جاءَ من سَحْبانِهِ

أوراقُه أشْجارُ روضٍ زاهرٍ ... قد تُجْتَنى الثَّمراتُ من أفْنانِهِ

لله دَرُّ مُؤلِّفٍ فاق الورى ... بفرائدٍ فغدَا فريدَ زمانِهِ

فجَزاه ربُّ العالَمين بلُطْفِه ... طبقاتِ عِزٍ في فسيحِ جِنانِه

لما تعمقت في لجج هذا البحر الزاخر، صادفت أصداف أصناف الدرر الكامنة النوادر.

وألفيته روضةً غناء زاهرةً أزهارها، وروضةً زهراء ناضرةً أنوارها.

وجناتٍ شقائقها محمرة، وجنات حدائقها مخضرة.

تذكرةً لعارفٍ تقي، وتبصرةً لمستبصرٍ عن الرذائل نقي.

جاوز الشعرى بشعره الفائق، وفاق النثرة بنثره الرائق.

قد استضاء بجواهره المضية تاج تراجم الأعيان، فصار كأنه مرآةٌ انعكس فيها صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزمان.

اللهم اجمع بيننا وبينهم في غرف عدنٍ وطبقات الجنان.

ومما يروى له من الشعر قوله:

إذا ما كنتَ مَرْضِيَّ السَّجايَا ... وعاش الناسُ منك على أمانِ

فعِشْ في الدهرِ ذا أمْنٍ ويُمْنِ ... ويُوصِلُك الإله إلى الأمانِ

وقوله في الغزل:

قد قتل العشاقَ من لَحْظهِ ... دماؤُهم سالَتْ على الأوْدِيَهْ

يا عجباً من قاتلٍ إنه ... ليس عليه قَوَدٌ أو دِيَهْ

ولده شيخ الإسلام يحيى المولى الأعظم، والملاذ الأعصم، والعروة الوثقى التي لا تفصم.

واحد الزمان، وثاني النعمان.

طلع شمساً في فلك الفتيا فلما قابل أرضه البدر انخسف، ودار كل شهر على لقاه فلما آيس انتحل بل امتحق من الأسف.

فشعشعت الآفاق منه غرةٌ في جبين المجد مشرقة، واستقر به في ذلك المركز شخصٌ لم يدخل العلوم من بابٍ واحدٍ، بل دخلها من أبوابٍ متفرقة.

فأطاعته الدولة إطاعة المملوك لمالكه، ونفذت كلمته نفاذ كلمة المليك في ممالكه.

في رياسةٍ مطارح ظلالها حرم، وكل فعالها جودٌ وكرم.

فلم يدع لفضل الفضل ذكراً، وترك معروف يحيى بن خالد نكراً.

بل لم يبق لكعبٍ، من علو كعب.

وأنسى دعوة حاتم، بأي مادحٍ وخاتم.

تتنفس الأسحار عن آثاره، وتتبسم الأماني عن جوده وإيثاره.

والدنيا مشرقةٌ بلألاء وجهه المضي، والأيام تغضب إذا غضب وترضى إذا رضي.

وقد ضمنت مساعيه أن يشكر، وأن لا تعذب الأفواه حتى يذكر.

وله القدر الذي استخدم الأنام، واستعبد الليالي واسترق الأيام.

إذا أقبل في كوكبه وجلاله، تسجد الأجفان لتعظيمه وإجلاله.

فرأيه سراج الملوك، وذلك من نظمه الذي هو نظم السلوك.

وهو في الأدب أوحد من لان له الكلام، فإذا أمسك القرطاس اختصمت أفواه الدوي في تقبيل أقدام الأقلام.

يستوقفُ العَلْيا جَلالاً كُلَّما ... سجَد اليَراعُ بكفِّه تبْجيلا

لا تسْتنيرُ به المعالي غُرَّةً ... حتى يسيل به النَّدَى تَحْجِيلاَ

وكل من كان في عصرهِ، فهو هاصر غصن الأدب من محل هصره.

وأكثرهم عليه تخرج، وفي بستانه تأرج، ومن طبعه اكتسب وإلى طريقه انتسب.

فرياض أفكاره باسمة الثغور عن شنب المعالي والألفاظ، وغياض أشعاره متفتحة عن ورد الخدود ونرجس الألحاظ.

تهز أعطافها ارتياحاً به القوافي، وتحث لها الندمان أكؤسها على الغدران الصوافي.

مستظْهِرٌ بعباراتٍ وألْسِنةٍ ... تفَتَّتْ كالرياضِ الغُرِّ ألْوانَا

<<  <  ج: ص:  >  >>