للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهْدَى إلى لُغَةِ الأعْرابِ تُبَّعَهَا ... ورقَّ بالمنطقِ التُّركِيِّ خاقَانَا

وقد أوردت له ما يحلي الأدب كما يحلي السوار الزند، ويفوح عرفه كما يفوح عرف العنبر الند.

فمنه قوله في الغزل:

ورَد النسيمُ بأطْيبِ الأخبارِ ... طاب الوُرودُ وسائرُ الأزْهارِ

سكِروا بخمْرِ الشوقِ حتى أظهرُوا ... ما في ضمائِرهم من الأسرارِ

في جَمْعِهم لم تَلْقَ إلا ماسِكاً ... قدَحاً من الإبْرِيزِ والبَلاَّرِ

والحوضُ فيه مجالسٌ مَلكِيَّةٌ ... والوَرْد كالسُّلطانِ في الأطْوارِ

لِعب الشَّمال بهم فحرَّكهم كما ... لعِب الشَّمُول بزُمْرةِ الشُّطَّارِ

وقوله:

كأنْ بوَرْدِ خدَّيْه عُقارُ ... شرِبْتُها حتى بَدا البَلاَّرُ

البلار: لغة في البلور، رأيته في استعمال المولدين، منهم المعتمد بن عباد، على ما ذكره في قلائد العقيان:

جاءتْكَ ليلاً في ثيابِ نهارِ ... من نُورِها وغُلالةِ البلارِ

والشرب كناية عن التقبيل، أزيلت به الحمرة وبدا البياض.

ومن لطيف تخيلاته قوله:

بِحُلَّةٍ حمراءَ جاءتْ وقد ... تفُوح بالعنْبَر أذْيالُهَا

حِلْيتُها لَعْلٌ وياقوتةٌ ... صِيَغ من العَسْجدِ خَلْخالُهَا

وله تخميس على بردة الأبوصيري بقوله:

لمَّا رأيتُك تُذْرِي الدمعَ كالعَنَمِ ... غرِقتُ في لُجَجِ الأحْزانِ والتُّهَمِ

قُلْ لي وسِرِّ الهوى لا تخْشَ من نَدَمٍ ... أمِن تذكُّر جِيرانٍ بذِي سَلمِ

مَزجْتَ دمعاً جرَى من مُقْلةٍ بدَمِ

تُمسِي بعَيْنٍ بوَبْلِ الدمعِ ساجِمةٍ ... ونارِ وَجْدٍ بجَوْنِ القلبِ ضَارِمةٍ

فهل بَرِيدٌ أتَى من حَيِّ فاطمةٍ ... أم هبَّتِ الرِّيحُ من تِلْقاءِ كاظِمةٍ

وأوْمَض البرقُ في الظَّلْماءِ من إضَمِ

متى السُّلُوُّ لأهلِ العشقِ عنه متى ... وحَبُّ حُبِّ سُلَيْمَى بالحشَا نَبَتَا

إن تُنْكرِ الوجدَ عندي بعد ما ثبتَا ... فما لعيْنَيْك إن قلتَ اكْفُفَا هَمَتَا

وما لقلبِك إن قلتَ اسْتفِقْ يَهِمِ

تُريد تُخْفي الهوى والدمعُ مُنْسجِمٌ ... وفي حَشاك لَظَى الأشواقِ مُضْطرِمٌ

هيْهات كاتمُ سِرِّ العشقِ مُنْعدِمٌ ... أيحسَب الصَّبُّ أن الحبَّ مُنكتِمٌ

ما بين مُنْسجِمٍ منه ومُضْطرِمِ

ومن إنشائه، ما كتبه على كتاب في الطب، اسمه مغني الشفا: يا له من روضةٍ شحاريرها أقلام المادحين من النحارير، وألحان سواجعها ما سمع لدى التحرير من الصرير.

غصونها أورقت ولكنها بصحائف كأنها مملوءةٌ باللطائف أطباق، وأثمرت والعجب أن منابت أثمارها بطون الأوراق.

من وقف عليها وتوقف فيما قلته من الوصف العاري عن المرا، فلا شك أنه مبتلىً بداء النوك وليس له دوا.

ولما أجلت نظري في ربوة حسنها وبهجتها، ونشقت شذا رياحينها وشممت عرف نفحتها.

وعاينت مجالس أنسها وقضيت منها العجب، وحرك مني أوتار سطور طروسٍ بها ما لا يحدثه القانون من الطرب.

توجهت بمجامع قلبي إليها، وقلت مؤثراً موجز القول في الثناء عليها:

يا روضةً في رُباهَا ... دَوْحٌ غدَا سَجْعُ طَيْرِهْ

مَغْنَى الشِّفاءِ ومُغْنٍ ... عنِ الشِّفاءِ وغيرِهْ

ومن نوادره، أنه دخل عليه رجلٌ، فوقف وسوى قامته، ثم انحنى، ثم قبض على لحيته، وجعل كأنه ينفض عنها شيئاً من آخرها ثلاث مرات، ثم قال له يعمى: باسم الفقير؟ فقال له: اجلس يا إدريس.

ومن هذا القبيل ما يحكى عن الصاحب، أنه سأل رجلاً عن اسمه، فأنشده:

وقد تستوي الأسماءُ والناسُ والكُنَى ... كثيراً ولكن ما تساوَى الخلائقُ

فقال له الصاحب: اجلس يا أبا القاسم.

علي المعروف برضائي سبط المفتي زكريا عليٌّ الرضا في نباهته، وإن شئت فقل في نزاهته.

ذو البنان الرطب، والبشر الذي يفرق منه الخطب.

فسيح مدى الإغضاء وفضاه، منتقبٌ وجه غضبه برضاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>