انتسخت شمائله من الصبا في المنازه الرحاب، وارتضعت خلاله مع طفل النور أخلاف السحاب.
فيكاد من رقته يذوب ذوبان علي بن الجهم، وتتقطر مياه البراعة من أعطافه إذا أخذته حرارة الفهم.
وله قوة إلهامية، على افتراع بنات الأفكار، وسليقةٌ غريزية، في اختراع المعاني الأبكار.
ومن آثاره الفريدة، مختصر الخريدة.
سماه عود الشباب، كله لب اللباب.
وكان ممن ولي قضاء القاهرة، فافترت مباسمها عن فضائله الزاهرة.
وقد سلك في قضائه بها أجل مسلكٍ جلي، وصدق الحديث المروي: " أقضاكم عليٌّ ".
وبها عطل منه جيد القضا، على مقتضى الحكم الذي لا يقابل إلا بالرضا.
فعلى أخلاقه الرضية، رضوان الله ورحمته الراضية المرضية.
فمن توشيات قلمه، قوله في الاعتذار عن اختصار الخريدة: ولما وجدت بعض نقده أزيف من رائج زماننا، شرعت في تمييز الجياد واكتفيت باقتطاف الجياد من ثمار أغصانها، بل قنعت بالعرف الضائع من بانها.
وإني وإن فاتني بعض جواهره فالغائص يعذر بما في يديه، ويشكر الصبا مقبلاً من الحبيب بعض عرف صدغيه.
فجاء بحمد الله تعالى غادةً تسحر القلوب بألفاظها القسية، وألحاظها البابلية.
تصيد القلوب بألحاظها التي زينها الجمال بالفتور، فمن نظر فيه يشتعل قلبه بالنار وتكتحل عينه بالنور.
وإني غير آملٍ من أبناء الزمان تحسينهم، وبقلادة حسن القبول توشيحهم وتزيينهم.
فإن من جرب الناس في أمرهم، يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم.
بل ما نؤمله من كرمهم الفسيح، أن لا يوردوا وجهه بالتصريح بأنه قبيح.
إنَّا لفي زمنٍ تَرْكُ القبيحِ به ... من أكْثرِ الناسِ إحسانٌ وإجْمالُ
ثم ختم الديباجة بذكر خاله شيخ الإسلام يحيى وجعل المختصر معنوناً باسمه، وأورد هذه الأبيات وأظنها من نظمه، وهي:
يا مُصدِرَ الآمالِ بُدْناً بعد ما ... سُقْنَا إليك مع الرَّجَا أنْقاضَها
عِشْ في ذَرَى كافي الكُفاةِ مُصاحباً ... نِعَماً بياضُ الصبح هاب بياضَها
وخُذِ الجواهرَ من قلائد مِقْوَلِي ... إذْ كان غيري مُهْدِياً أعْراضَها
قوله: يعرف أن الناس مشتقون من دهرهم يشير به إلى قول أبي الفرج العلاء الرئيس الواسطي:
الناسُ مُشتقُّون من دهرِهمْ ... طَبعاً فمن مَيَّز أو قاسَا
يمتحن الدهرَ وأحْوالَه ... مَن شاء أن يمتحنَ الناسَا
واتفق لي أن بعض الإخوان وعدني بإرسال هذا المختصر وسوف، وشوق العين لاجتلاء روضه النضر وشوف.
فكتب إليه متمثلا:
نَوالُك دون حَجْبُ الحجابِ ... ومَن ناداك مفقودُ الجوابِ
إذا أمَّلتُ يوماً منك وَعْداً ... كأني أرْتجِي عَوْدَ الشَّبابِ
ومن شعر رضائي، قوله مضمناً في الدخان، وقد أبدع:
غَلْيونُنا حين همَّت كلُّ نائيةٍ ... به وسامَرنا هَمٌّ وأفْكارُ
قد اهتديْنا إلى شُرْب الدُّخانِ به ... كأنه علَمٌ في رأسِه نارُ
الغليون: أطلق على سفينة معهودة بين العوام، وعلى هذه الآلة التي يوضع فيها ورق التبغ ويشرب، وكلاهما عير لغوي، وهو في اللغة اسم للقدر.
والمصراع للخنساء، من قصيدتها التي رثت بها أخاها صخراً.
وأول البيت الذي هو ثانيه:
وإن صَخْراً لتأْتَمُّ الهُداةُ بهِ
وقد كثر تضمين الشعراء له في مقاصد لهم وأجود ما رأيته من تضامينه قول العز الموصلي، في سامري، اسمه نجم:
وسامَرِيٍ أعارَ البدرَ فضلَ سَناً ... سَمَّوه نجْماً وذاك النْجمُ غَرَّارُ
تهْتزُّ قامتهُ من تحت عِمَّتِه ... كأنه علَمٌ في رأسهِ نارُ
ومما عربته من شعره:
جرَّد لي من ناظِريْه مُرْهفاً ... ومثلُه من حاجبَيْهِ عاطِبي
حَيَّرني فَدَيْته أأغتدِي ... قُرْبانَ عَيْنيْه أم الحواجبِ
محمد بن بستان المفتي خدن الفضل وتربه، ومن أمن من المكروه سربه.
يتفتق من المعارف مكنة، لكنه يرتضخ لكنة.
فالكلام مشغوف بحلاوة لسانه، والقول وقف على حسنه وإحسانه.
وهو من حين أقمر هلاله، راقت ولا ورق البستان المزهر خلاله.