قال: نعم، هذه بقية شبابي، وأنا أفرح بها، ولي فيها شعرٌ.
فقلت: أنشدنيه.
فأنشدني:
رأيتُ في الرَّأْسِ شَعْرةً بَقِيَتْ ... سوداءَ تهْوَى العيونُ رُؤْيتَهَا
فقلتُ للبِيضِ إذْ تُرَوِّعُها ... باللهِ ألاَ فارْحَمْنَ غُرْبَتَهَا
وقَلَّ لُبْثُ السوداءِ في وَطَنٍ ... تكون فيه البَيْضاءُ ضَرَّتَهَا
ثم قال: يا ابن الخطاب، بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء.
أحمد اليبنبعي شهابٌ في سماء الفضل قد وقد، تنفث أقلامه في عقودٍ لا عقد.
وضح في طريق المعارف وضوح النور الساطع، ومضى في تحصيل شواردها مضاء السيف القاطع.
وله بديهة لم تعب في ميدان سبقٍ بتخلف، وأشعارٌ سلمت من وصمة تعقيدٍ وتكلف.
فمنها قوله:
سَبَى فؤادِي ومَن حاز الجمال سَبَى ... ظَبْيٌ من التُّرْكِ ألْهَى حُسْنُه العَرَبَا
منها:
والليلُ مشتمِلٌ بالغَيْم مُتّشِحُ ... بالبَرْقِ قد وضعُوا تاجاً له الشهُبَا
والبرقُ مُسْتعِرُ الإيماضِ مُتَّصِلٌ ... كأنه قلبُ صَبٍ للنَّوَى وَجَبَا
أو أنه ضَوْءُ مِصْباحٍ يُمثِّلُه ... ضَحْضَاحُ ماءٍ ولكن عندمَأ اضْطَرَبَا
وله من أخرى، مطلعها:
سَلُوا عن فؤادِي إن مَرَرْتُم على سَلْعِفعَهْدِي به لمّا الْتَقَى الرَّكْبُ بالجِزْعِ
منها:
كأنَّ حُروفَ العِيسِ في فاحِمِ الدُّجَى ... أحاديثُ سِرٍ أُودِعتْ جَيِّدَ السَمْعِ
كأنَّ سُهَيْلاً غُرَّةٌ فوق أدْهمٍ ... يُجاذِبُه رَبُّ العِنانِ عن الرَّفْعِ
وتنظُر في الغَرْبِ الهلالَ كأنه ... مِن الْعاج مُشْطٌ غاصَ في آخرِ الفَرْعِ
هذا التشبيه محل نظر.
إلى أن تجلّى عن دُجَى الليلِ صُبْحُهُ ... تَجلِّي أمير المؤمنين عن النَّقْعِ
وله:
شكى إلى آسِيهِ مِن رأسِه ... مَن قَدُّه يَهْزأُ بالآسِ
قلتُ كِلانَا والهوى قد رَسَا ... في القلبِ نَشْكُو ألَمَ الرَّاسِ
إبراهيم بن صالح المهتدي أحد من سبق وادعى، ورعى من حق الصنعة ما رعى.
تبلغ بها على رواج سوقها، وانتحلها على توافر أمانيه من وثوقها.
والإمام أحمد بن الحسن أول من استدناه، وبلغه من وفور المواهب مناه.
فتهادته السيادة تهادي الرياض النسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في العيش الوسيم.
فنشأ خلقاً جديداً، وجرى طلقاً مديدا.
وهو شاعرٌ كاتب، حقه واجب، وفضله راتب.
وكلماته قلائد في طلى ولائد، وفرائد في أجياد خرائد.
وقد أثبت له ما يبلغ الغاية في الإغراب، ولم يسمع بأجود منه من العرب والأعراب.
فمنه قوله، من قصيدةٍ كتبها إلى الإمام إسماعيل، يحثه على الجهاد، لما أحصر الركب اليماني، في سنة ثلاث وثمانين بعد الألف:
أظُلْماً عن البيتِ الحرامِ تُذادُ ... على مِثْلها الخلُ الجِياد تُقادُ
وخَسْفاً يُسامُ الهاشِمِيُّون إنها ... لَفَادِحةٌ فيها الحتوفُ تُقادُ
فلا نامتِ الأجْفانُ يا آلَ قَاسِمٍ ... وكيف وفيهِنَّ السيوفُ حِدادُ
ولا حمَلتْكُم مِن نتائجِ دَاحِسٍ ... شَوازبُ ما لم تُسْتشَبَّ زِنادُ
إذا لم يَصُنْ مجدَ الخلافةِ منكمُ ... فمِن أين مجدٌ طارِفٌ وتِلادُ
تدافعتِ البِيدُ المَوَامِي بقومِكمْ ... تَدافُعَ ذُلٍ في دِماه ضِمادُ
ورُدُّوا حيارَى خائبين بصفْقةٍ ... يُنالُ بها رِيحُ الرَّدَى وتُقادُ
وقد شارَفُوا أرْجاءَ مكةَ وانْثَنَوْا ... بِفاقِرةٍ تَفْرِي الأَدِيمَ وعادُوا
بنى القاسم المْنصور لا تحْسَبونها ... مُهنِّيةً لا بَلْ عَناً وعِنادُ
فعَزْماً فأنتم أُسْرَةُ السُّؤْددِ الذي ... مَبَانِيه من فوقِ النُّجومِ تُشادُ