كل قطرٍ يشتاقها فهو يتمنى لو صدق فيها الخبر العيان، وكم هواءٍ صار لها رمالاً فهو إذا مر خط في رمل الكثبان.
وناهيك ببلدةٍ فضلها الله ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها.
وأسعد مطالع أنوائها، فاهتزت وربت مساقط أندائها.
إن بارت تجارةٌ فإليها تجلب، أو عزت نفيسةٌ فمنها تطلب.
فلذا ترغب النفوس في جوارها، وتنفسح الآراء بين أنجادها وأغوارها.
وقد جمعت ما ولد سام وحام، واشتد بها الالتحام والازدحام.
واحتوت الآن على جل أبناء يافث، من كل صنديد في عقد الملمات نافث.
فهي كرسي الأمراء والأعيان، وقرارة السادات الذين يكل عن حصر معاليهم نطاق البيان.
وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبثة عن أصالة الحلوم.
إلى الأبنية المحاذية للأفلاك، والمراقي التي كاد أهلها يسمعون تسبيح الأملاك.
وفيها المقاصر والقصور، والمقاعد التي عليها الحسن مقصور.
ومن محاسنها الزاهرة المناهج، البرك التي استوعبت رونق المباهج.
وخصوصاً إذا وفاها النيل حقها، ورأيت المناظر حولها وقد أحكمت نسقها.
فهناك تقول: ما أبهجها، ويقول القائل: ماأحقها.
انْظُر إلى بِرَكٍ في مصرٍ اتَّسَقَتْ ... بها المناظرُ كالأهْداب للْبَصَرِ
كأنما هي والأبْصارُ تَرْمُقُها ... كواكبٌ قد أدارُوها على القَمَرِ
وبالجملة فهي بالنيل تجر على البلاد الذيل والردن، ولها بذلك المزية التي ما نالها مدينةٌ من المدن.
وأحسن محاسنه عشياته المذهبات، التي لم تزل لأحزان القلوب مذهبات.
فمن رآه مال طرباً من غير مميل، وعرف سر قوله: ومما يزدهيني ضحك البدر في وجه النيل.
إلى غير ذلك من المعاهد والغيطان، والفرج التي تنسي الغريب الأوطان.
ومن عرف مقادير الأشيا، ونازل الأطلال والأحيا، عرف أن هذه البلدة واحدة بسيط الأرض، وحساب خيراتها الدارة لا ينفد إلى يوم الحساب والعرض.
وقد خرج منها واحدٌ بعد واحد، شهرة فضله كالشمس لا تنكر ولا تجحد.
فكأنه النير الأظهر، أو الجامع الأزهر.
خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة.
فمنهم: شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي أول من عددت، وأجل من أعددت.
أقول فيه لا مبالغاً، ولست لأداء بعض حقه بالغا: لأن تطاول السماء وتفرع، وتشبر البسيطة وتذرع، وتزاحم أفلاك الكواكب بالمناكب، ويتعرض لإحصاء القطرات الهوامل، بالأنامل، ويدرك جوهر الشمس، باللمس، وتعارض زخرة البحر، بالنحر، أسهل من أن تحصى صفاته، أو أن تقرع لفكرٍ صفاته.
وهو الذي سار ذكره في العالم وانتشر، وخرج في إحاطته بالعلوم عن حد البشر.
وناهيك بمن لم يخل زماناً من فائدة، ولا مكاناً من عائدة.
وقد طال عمره، وما خمد جمره.
فهو كلما أسن، شحذ مرهف طبعه وسن.
مع سلامة نفسه في كل حالاته، وتوفر أمانيه من أسباب التحصيل وآلاته.
وقد جمع من الكتب ما لا يدخل في ديوان حاسب، مع الاستعداد الذاتي الذي يأبى أن يكون باكتساب كاسب.
فسرد آيات الفضائل وتلاها، وعن اقتناص شوارد الفنون ما تلاها.
وسلمت مباحث فضله عن المعارضة والجدل، وكان الثناء له وحده فإن ذكر غيره فكالرابع المعهود في البدل.
وصنف التصانيف التي تشهد بكل فضل، وحسبك منها عناية القاضي فإنها خيرٌ من شاهدي عدل.
وأما الأدب فقد امتزج بلحمه ودمه، وكان به وجوده بعد أن أشرف على عدمه.
فهو بدونه كالجسد بلا روح، واللفظ دون مشروح.
أو كالروض لا يجاد، والعاتق بلا نجاد.
فإذا شمر في البلاغة ساعده، نضا عن ساقه لخدمته ابن ساعدة.
فأما منشآته فلا يتصور عن الإتقان خروجها، وأما أشعاره فقد حرست بالشهب بروجها.
فإن ألم بها ماردٌ فاسترق، أتبعه طارقٌ فاحترق.
وآثاره كما عرفت طويلة الذيل، تعرف مقدارها شواهد الليل.
صقلتها تلك الفكرة المطيعة، وهي وإن كانت كثيرةً فصديقةٌ للطبيعة.
فهو في الإنشا فعل الأفاعيل، وأهمل الصادين: إبراهيم، وإسماعيل.
وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة.
بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببهما حسدت الحروف الصاد.
وله كتاب الريحانة الذي ذيلت عليه، واقتبست نور الهدى بتوجه رغبتي إليه.