وما أنا بالنسبة لما أبدعه، ولما جئت به مما كان الأحرى بي أن لا أدعه، إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواجه الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصا.
ذاك لا يستحسنه الإدراك، حتى تصاد الشهب بالشباك، وتتقدم الفكة على السماك.
ولقد وصف كتابه بما أغناني عن وصفه، وهذه حالي معه إذا أردت التطرية أتيت ببدائع رصفه: فهذه ذخائر من خبايا الزوايا، فيما في الرجال من البقايا تنفس الدهر به عن نفحةٍ عنبرية، وهبت بها أنفاسٌ نديةٌ ندية، تنفس الروض في الأسحار، بأفواه العبير عن ثغور النور والأزهار.
من كل شذرةٍ تهزأ بقلائد العقيان، وكل زهرةٍ لها من السطور أفنان.
وكل فريدة يقر لها بالنفاسة الجميع، وكل منقبةٍ إذا وعى ذكرها السامع وعبق قيل:
أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
ومما اقتضاني أن أثبته في وصفه، ما قاله البرهان الباعوني الشامي، في حق لسان الدين بن الخطيب والتنويه بقدره السامي، وقد رأى كتابه الريحانة، وهو به أشبه، وما أظن تقاربهما خفي أو اشتبه: صاحب كتاب الريحانة، آيةٌ من آيات الله سبحانه.
لوجه أدبه طلاقة، وللسانه ذلاقة، وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة.
قلت: وأي غلاقه يعرفها من عرف اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته.
فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر.
وليسبح الله تعجباً من قدرته جل وعلا، ومذاهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا.
وليقل عند تأمل دره النظيم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". انتهى.
وله ديوان شعر وقفت عليه بخطه، فأثبته بخطي، ولم يمكني على ما في من الملال التجافي عنه والتخطي.
ويكفيك من شعرٍ لو سمعه النابغة ما نبغ، أو ابن صفوان لم يبلغ من صفاء وقته ما بلغ.
ولو جاراه الجعدي لاعترف بالخرس، أو الأسدي لانصرف عن صفة الفرس.
وأنا الآن قد قصرت النظر على آثاره، من نظامه ونثاره، وحسبي ذلك من منحة الحظ وإيثاره.
فما على من بلغ من التملي بآدابه أربا، أن ينبت جسمه بعد أن يصير تراباً أدبا.
وأسأل الله أن يجعله ممن فاز بالنجاة، ويهيىء له من خزائن فيوضاته رحمته المرتجاة.
وهنا أورد من نثره العالي ما جمع الحسن أجمع، وأتبعه من شعره الغالي بما لم تر أجود منه ولا تسمع.
فمن فصوله القصار، قوله: إن ساعداً زينته بسوار المنائح، يمرى لك ضروع الثناء والمدائح.
ولك وارف ظلال، تقيل فيها الآمال.
بها الألسن تقر، والأعين والقلوب تقر.
كم موقد نارٍ بها احترق، ومحسن سبح اللجج فيها غرق.
قال لي خليع: قبيحٌ مؤاجر، أحسن من مليحٍ خلف الستائر.
شتان بين درهم النقد، ودينار الوعد.
شجاعة الملوك صبرٌ وثبات، وشجاعة الجند إقدام وثبات.
الكيس يفتح الكيس.
في إغماض العين وإغماد اللسان عقاب العقلا، وبلسان السوط والسيف عقاب السفها.
لكل قلبٍ هوى، كما أن لكل داءٍ دوا.
فما اعتلال نسيم الصبا، إلا الحب زهور الربى.
إذا خلت قلوب الأكياس، خلت من السرور قلوب الأكياس.
لو هم الفلك الدوار برفعة ماجدٍ في الأبد، ما قدم الثور في منازله على الأسد.
من باع الجزع بالاصطبار، فله على الزمن الخيار.
ما سمي الزمن زمناً؛ إلا لأنه يقول لك اقعد.
هدايا الأنام تجارة، وقبولها منهم خسارة.
المعروف والصنيعة، عند الحر وديعة.
ربما كان أمر من الدا، روائح العقاقير وشرب الدوا، وطول جلوس العواد الثقلا.
قومٌ بلا روح في الصور والملابس، كالصور المنقوشة في الكنائس.
قد يحتجب الحر لقلة اليسار، كما احتجب البدر عند السرار.
إذا كان أعدى عدوك بين جنبيك، فصبرك عليه إحدى شجاعتيك.
اللبيب أدبه، فضته وذهبه.
إذا كانت الأراجيف ملاقيح الفتن، فانطلاق الألسن نتاج المحن.
لو كان هذا الوجود أصلاً ما ولد العدم، ومن يشابه أبه فما ظلم.
الحر لا يجازي كل من أسا، والأسد لا يفترس النسا.
الدنيا بإقبالها، والدولة بأقيالها.
ما كل وقتٍ يسعف بما تحب، فإذا أردت لبون فاحتلب.
بين القواد والرقباء لاح بعض إحسان، فعرفت أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان.
من أبطأ رجاؤه، أسرع عناؤه.
ومن الخلف داؤه، فالترك دواؤه.